بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
- · اليوم الخامس والعشرون للإضراب ...
لم يعد الأمر يحتمل الهزل أو الاستخفاف، ولا التردد وعدم الحسم، ولا المشاهدة السلبية والمتابعة الباردة، ولا الاعتماد على المجتمع الدولي والضمير العالمي، فقد دخل إضراب الأسرى والمعتقلين المفتوح عن الطعام يومه الخامس والعشرين، وهم لا يزالون يتقدون قوةً، ويتفجرون حماسةً، ويلتهبون إرادةً، ويتقدمون رجولةً، ويتصدرون أبطالاً، ولا نية عندهم للتراجع أو الانكفاء، أو القبول بالخسارة والاعتراف بالهزيمة، رغم أن الإنهاك قي نال منهم، والإرهاق قد أثر فيهم، والامتناع عن الطعام قد انعكس على أجسادهم نحولاً، وعلى أصواتهم خفوتاً، وباتوا يعانون من ظواهر مؤلمة وقاسية، تنذر بما هو أسوأ، وتحذر مما هو أخطر، وقد بدوا أنهم يقتربون من مصيرٍ سيئٍ، بعد أن كثر القيئ وتشققت الشفاه وتيبست الحناجر، وكثرت حالات الدوخة وفقدان التوازن، واضطربت العيون في محاجرها وأصابها شئٌ من العجز أو الكلالة.
نخطئ كثيراً عندما نقاتل بأسرانا، ونهاجم بمعتقلينا، ونهدد بإضرابهم، ونتوعد بجوع أمعائهم، ونترقب النصر بخواء معداتهم، ثم نقف أمام معاناتهم متفرجين، صامتين ساكتين، أو شاكين وباكين، نصرخ ونولول، ونشق الجيوب ونلطم الخدود ونشكو العجز وقلة الحيلة، ونظهر الضعف أمام عدونا ونستجدي النصرة من غيرنا، ونستعرض صور الأسرى والمعتقلين لنستجلب العطف عليهم، ونستمطر الشفقة على مصيرهم، فهذه ليست رجولةً ولا هي أخلاق النبلاء ولا أفعال الشرفاء ومقاومة الشجعان، ولا هو السلوك المنتظر منها والمتوقع من شعبٍ يعاني أبناؤه، ويشكو أسراه من سوء أحوالهم، وقسوة ظروفهم، والظلم الواقع عليهم، بل ينبغي أن نسبقهم إلى الميدان، وأن نكون قبلهم على مختلف الجبهات، فنحن نمتلك خياراتٍ أكثر، وعندنا مجالاتٌ أوسع، وكل ساحات العالم مفتوحة لنا لتكون ميادين للمقاومة، وسوحاً للقتال، نتضامن فيها ونتظاهر، ونرفع الرايات ونردد الشعارات، ونطالب حكومات العالم بالوقوف معنا والانتصار لقضيتنا.
إنها فرصة الجميع لأن يساهم في هذه المعركة، وأن يقدم فيها شيئاً يرضى بها عن نفسه، ويبرأ إلى الله عز وجل من عجزه، ويقدم شيئاً لأهله، ويشارك ببعض جهده شعبه، حتى لا يأتي عليه يومٌ فيه يندم، وزمانٌ فيه يتهم بالتقصير أو بالجبن، وبالخيانة وترك الأمانة وعدم القيام بالواجب، فالتاريخ لن يرحم أحداً قصَّرَ، ولن يسكت عن أمينٍ خان، ولا عن مترددٍ ضيع الفرصة وفوت المناسبة، ولن يغفر لمن كان قادراً وتأخر أو يستطيع وما تقدم، فهذا مقامٌ لا عاجز فيه ولا غير قادر، ولا مكان فيه لمعتذرٍ أو خائفٍ، ولا لمترددٍ أو وَجِلٍ، ولا لبعيدٍ أو قاصٍ، ولا لغريبٍ أو قريبٍ، وهذا مقامٌ يستوي فيه الرجال والنساء، والشيوخ والشباب، والصبية والكهول، ولا فيه عذر لعجوزٍ ولا تهاون مع شابٍ.
إنها معركةٌ قد عقدت نواصيها، ورفعت راياتها، ودقت طبولها، وانبرى رجالها، وخرج للقتال أبطالها، فليس منا من لم يساهم فيها ويقاتل، ولا مكان بيننا لمن ادخر فيها طلقةً، أو حبس فيها كلمة، أو عطل مسيرةً، أو أفسد مهرجاناً أو اعتصاماً، أو امتنع عن تلبية النداء وتأخر عن أداء الواجب.
إنها أيام الله فينا التي سيحفظها لنا، وسيسطرها في كتابنا، وسيعرضها علينا في سجل أعمالنا، فأروا الله في أعمالكم، وامتازوا اليوم بجهودكم، وقدموا بين يدي أبنائكم ما تستطيعون، بل أغلى ما تملكون، إنها معركة الكرامة وحرب العزة والشرف، وهي ثورة الحرية والرفعة وانتفاضة النصر، فشاركوا فيها بما تستطيعون، وقاموا فيها بما تقدرون، ولا تعتذروا أبداً إذ لا مكان للمعتذرين بيننا اليوم، ولا حرمة للمتخلفين عن القتال في هذه المعركة غداً.
واعلموا أن هناك متسعاً للجميع بلا استثناء، ومكاناً لكل من أراد وعزم، إذ كلنا قادرٌ على الفعل والعطاء، والبذل والفداء، ويستطيع كل منا أن يقدم من موقعه، وأن يساهم من مكانه، وأن يشارك بالقدر الذي يستطيع في تعزيز إضرابهم، وتصليب ومواقفهم، وتحصين تحركهم، فانتصروا لإخوانكم في معركتهم، وشاركوا من أجلهم بالكلمة والصورة والرسم والشعار، والوصف والعرض والبيان، والمسيرة والمظاهرة والاعتصام والإضراب الرمزي، ارفعوا الصوت عالياً، واصرخوا في وجه الجلاد بقوة، وانتفضوا ضد العدو بكرامةٍ، وهبوا في مواجهته بصدق، فهذا يومٌ له ما بعده، ولن يغفر الشعب والتاريخ لمن قَصَّرَ فيه أو تأخر.
أيها الفلسطينيون في الوطن والشتات، حيثما كنتم وأينما سكنتم، وأيها العرب الغيارى والمسلمون الأحرار، عيشوا اللحظة النضالية مع إخوانكم وأبنائكم الأسرى والمعتقلين، ولا تتخلوا عنهم في معركتهم، ولا تتركوهم وحدهم في مواجهة عدوهم، وكونوا معهم جنداً وقفوا إلى جانبهم سداً، وانصروهم وساندوهم، وأيدوهم وساعدوهم، فهم في السجون بسببنا، وفي المعتقلات نيابة عنها، وفي الجبهة الأولى دفاعاً عنا وفداءً في سبيلنا، وتخيلوا أنكم معهم وإلى جانبهم في معركتهم النضالية المشرفة، ومواجهتهم البطولية الصعبة داخل السجون والمعتقلات، وتصوروا أنفسكم أنكم الآن مضربون مثلهم عن الطعام، وأنكم لم تتناولوا شيئاً منذ خمس وعشرين يوماً، ماذا لو كنتم بينهم وجزءاً منهم، هل كنتم ستصبرون على الجوع والألم، وعلى المعاناة والسقم، وعلى الضعف العام وخمول الجسد.
أعظم بكم أسرانا الأبطال، وأكرم بكم رجالنا الأماجد، صناع المجد رواد الكرامة أهل النبل والشرف والشهامة، نحن معكم أيها الرجال الأبطال، وإلى جانبكم وفي ظلالكم، نقتفي آثاركم وندعم صمودكم ونساندكم في نضالكم، نرفع الرأس بمقاومتكم، ونفخر بالانتماء إليكم والدفاع عنكم، وندعو الله أن ينصركم وأن يكون معكم، ويفرج عنكم ويحقق أمانيكم، ونسأله سبحانه ألا يتركم أعمالنا وألا يخيب رجاءكم، وألا يمكن العدو منكم، فأنتم خيرتنا وصفوتنا، قد ساقكم الله إلينا لتكونوا قادتنا وطليعة مقاومتنا.