وزيّنا السماء بالجواسيس !!
العيون التي لا تنام هي الصفة التي كانت تعطى للشرطة، وخصوصا المخابراتيين منهم، هذا في زمن كانت الجواسيس آدميّة ولا أقول إنسانية، عصر الإخبار والتجسس الآدمي سيدخل متحف تاريخ التجسس، هذا طبعا عند الدول الفائقة التطور والتي لا ترضى بالتجسس البدوي، مع احترامنا الأكيد لباقي مناحي البداوة، أما عندنا فمازال للمقدم وشيخ الحي وحارس الليل والنهار والسيارات سنوات مديدة من العمل.. لأن القوم عندنا لا يثقون بـ "تكنولوجيا" التجسس حتى وإن كانت اليوم تكشف دبيب النمل، حتى وإن دخل النمل مساكِنه فالأقمار الصناعية اليوم ليست كالنبي "سليمان" الذي تبسم ضاحكا من قول نملة حذرت باقي النمل من أحذية جنود "سليمان"… عشرة آلاف مهندس وأكثر من ستين مليون دولار..
عشرون سنة.. تلكم هي المواد الأولية التي وفرتها الإمبراطورية الأمريكية لإقامة أضخم مشروع لأقمار تجسس عالية الدقة، ستقوم بمسح شامل لما تحت الأرض وما فوقها، لا تعيقها الأحوال الجوية ولا الأحوال الأرضية، تراقب بشكل أكثر من دقيق أحلام، وآمال، وخضوع، وتنطّع سكان الأرض، وتكمل المهمة أجهزة "الأنترنيت" والهواتف المحمولة، وهو ما فضحه الشريف الأمريكي "سنودين" حينما حذر سكان الأرض، وفي مقدمتهم الأمريكيون، من أن مكالماتهم وخصوصياتهم الشخصية التي يعبرون عنها في شبكة التواصل الرقمية كلها مراقبة يرجعون لها عند الضرورة… كل هذه الترسانة الضخمة توفر من المعلومات والأخبار ما يعجز عنه فيلق من المخبرين الآدميين.. ولسان حالهم يقول نحن نراقبك من السماء عبر الأقمار الصناعية وأنت أخبر عن نفسك من الأرض عبر الأنترنيت والمحمول، وهكذا يشتغل الإنسان مخبرا عن نفسه دون أجر… والإدارة الأمريكية اليوم تبيع صور الأقمار المتجسسة إلى دول النفط التي تحارب في اليمن للكشف عن تحركات الحوثيين وأتباع صالح في اليمن وفي غيرها من أماكن الصراع الذي أرادوه أن يكون عربيا وإسلاميا.. والمطلوب: اعطونا أموالكم كي تقتلوا أبناء عمومتكم بدقة عالية وبعدما بعنا لكم أسلحة تفوق بالملايين الضوئية لو أردتم أن تقتلوا كل المسلمين وما بقي من العرب..!!
الإمبراطورية الأمريكية حولت وأغرقت وأحالت السماء إلى وكر للجاسوسية بعدما ملأت سماءنا بأقمار تكشف كل خبايانا، هذا إذا كنا نملك خبايا أصلا.. الإمبراطورية الأمريكية لا تتوقع أصدقاء في العقود الطويلة القادمة، وبلغة أدق طيلة العمر الافتراضي لهذه الأقمار الصناعية المتجسسة… أقمار مندسة في السماء تراقب بواخر تجوب البحار وتصور غواصات تجوب المياه الدولية والإقليمية، عملاء بجميع الأشكال والألوان، زواحف من الزعماء يخبرون عن أنفسهم قبل أن يخبروا عن شعوبهم… أي خطر هذا الذي تتوقعه الإمبراطورية الأمريكية حتى تجند له السماء والأرض، والبحار والمحيطات والأنترنيت والهواتف النقالة، وهي نقالة فعلا ما دامت تنقل كل أخبارنا ونحن خدامها الأوفياء، لأننا نحملها دائما، وإذا ضاعت بحثنا عنها بلهف أكثر من صائم يبحث عن أذان المغرب في يوم رمضاني طويل وقائظ..!! ما أغرب أن نكون جواسيس على أنفسنا بهذا الإخلاص..!!
أعود فأقول: من نافلة الاستملاح أن أروي أن أحد الأصدقاء التحى حديثا، قال وهو يتحدث عن هذه الأقمار المتجسسة إن أمريكا هي الوحيدة التي طبّقت منطوق الآية القرآنية التي تقول: "ولقد زيّنا السماء الدُّنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين"… أجبت صاحبي: ما دامت أمريكا قد سبقتنا وهي كما تقولون عنها الشيطان الأكبر، أريد أن أعرف الآن من هم الشياطين الصغار الذين ترجمهم أقمار تجسس الشيطان الأكبر أو أمريكا..!! لم أنتظر الجواب، لكن يحق لنا أن نسأل: لماذا تصر الإمبراطورية الأمريكية على أن تصادر منا وتجردنا من كل الألغاز..؟؟ لماذا تصر أن نكون بكل هذا العري خصوصاً نحن الذين نملك الحكايات الكثيرة مع قضية العورة..؟؟ لماذا كل هذا الازدحام الجاسوسي في السماء وكأنهم لم يعرفوا أننا قوم لا نهتم بالسماء إلا إذا كنا ننتظر مطرا أو هلال عيد رمضان..؟؟ فلماذا إذن كل هذا الإرهاب السماوي والأرضي والبحري..؟؟ أحقّاً نحتاج إلى كل هذه الترسانة من الضبط والمراقبة..؟؟ وكأن هؤلاء المتجسس عليهم يملكون قدرات لا يعرفونها عن أنفسهم؟؟ هل الإمبراطورية الأمريكية تكره المفاجأة رغم علمها وعلمنا أن هذا العالم غير "التكنولوجي" لا يفاجئ حتى نفسه..؟؟ نعم، قد يطول بهذه الأقمار هذا المدار دون أن نفهم عبثية هذا الطوفان من التجسس الذي بلغ حدّ اللامعنى..!!
ورغم كل هذا العنف التجسسي الذي استباح كل شيء وحرمنا من أنس صنعناه مع زرقة السماء والبحر… ونجوم كنّا نحاول عدّها قبل أن يفرض عليها أن تعدّ حركاتنا وتراقب أنفاسنا.. نعم برغم كل هذا مازال هناك متّسع للحلم، لعل أوله أن نهب لهذه الأقمار الكساد، ونترك للسماء استكمال ضوضائها.. وأن الشيطان الكبير لا يرجم صغاره..!! فأحلامنا لا تحتاج لكل هذه الشراسة..!!
ما أجمل سماء تغنَّى بها أجدادنا الشعراء، فها هي معشوقة الشاعر يزيد بن معاوية تعاتبه لما شبهها بالبدر واعتبرته تنقيصا وهجاء، واعتبرت أن "هذا البدر مهما كان كبيرا ومقمرا يشبه فقط دملجي الذي أضعه في يدي"..!!
تشَبِّهُني بالْبَدْر هَذا تَناقُصٌ
بقَدْري ولكِنْ لسْتُ أوَّل من هُجِي
ألمْ ترَ أنَّ البَدْر عنْدَ كَمَالهِ
إذَا بَلَغ التَّشبيه عاد كدُمْلُجي
يبقى فقط أن أقول: آهٍ، لو استطعنا يا شاعرنا أن نكون فقط دمْلجا في معصم أحلامنا الراقية……!!
وكل سماءٍ وأنتم……………!!
بقلم ادريس ابو زيد.