قرانا لكم عن جريدة العلم :
أخشى أن يكون الأسوأ لم يحصل بعد، وأن تحالف العدمية والإنتهازية سوف يقودنا رأسا إلى الجحيم ..ببساطة هذا هو درس التاريخ ،فلم يسبق للإنتهازية والعدمية أن تحالفا دون أن يكون المصير أسودا قاتما ، تحقق ذلك في أوربا بداية الثلاثينيات ومباشرة بعد الأزمة الاقتصادية للعام 1929 ، حيث إنتصرت الخطابات المتطرفة وتابع العالم كيف وصلت النازية للحكم في ألمانيا والفاشية في إيطاليا ، وكيف تلاعب النظامين بمشاعر الناس وطموحاتهم اللامحدودة ، وحيث كانت إمكانيات الدولتين غير كافية لتلبية كل الحاجيات ..كان الجواب هو إحراق العالم إرضاء لطموحات مريضة ، وتابعنا في أمريكا اللاتينية كيف قاد العسكر تحالفات ضد اختيارات الشعوب وكيف تحالفت المنظمات اليسارية الماركسية مع أقطاب تجار المخدرات ..وكانت النتيجة كثير من الدماء ، وكثير من الفقر والبؤس وهيمنة أمريكية على القرارات السيادية وخيرات المنطقة ، وإنتشار واسع للجريمة المنظمة التي أصبحت وسيلة فعالة في يد الأنظمة الشمولية والمشكوك في ديمقراطيتها ، تستعملها بشكل آلي للحد من طموحات الشعوب وتخفيضها إلى الحد الأدنى ..هذا بالضبط ما جرى في الجزائر في عشرية الدم التي أعقبت الانتخابات التشريعية التي فازت بها جبهة الإنقاذ الإسلامية ، وهو ما يجعل الشارع الجزائري اليوم من أبرد الشوارع في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط ، ببساطة لأن الجزائريين عاشوا تجربة مريرة جعلت كل مطالبهم الديمقراطية والحقوقية تتوارى إلى الخلف ..فالجزائري كان يحمد الله إذا خرج وعاد إلى بيته ورأسه في مكانه ووجد أفراد عائلته أحياء...
في بلادنا تتسارع الحركات الاحتجاجية بمتوالية هندسية ، وأسمح لنفسي بوصفها بأنها تنطوي على إنتهازية نضالية غير مسؤولة وغير مسبوقة وفئوية بشكل يثير التقزز ، هذا لا يعني أن المطالب غير عادلة وغير مستحقة ، لكن توقيت التعبير عنها وأسلوب هذا التعبير ، يقدم لنا وخاصة للدارسين والباحثين فرصة لتمثل السلوك الجماعي للبعض عندما تكون البلاد تواجه تحديات جدية ، قد تأتي على الأخضر واليابس ..وتتيح فرصة أيضا لمساءلة موقع الوظيفة العمومية ضمن المنظومة الاقتصادية العامة للدولة ، فأغلب الإضرابات والحركات المطلبية والإحتجاجية يشهدها القطاع العام الذي لا يشغل في أقصى الحالات مليون مغربي ، لا يمكن أن نختلف على أنهم أكثر المواطنين المغاربة العاملين تمتعا بعدد من الحقوق ، ليس أقلها التغطية الصحية التي هي اليوم مطلب جميع المغاربة ..دون أن نغفل ساعات العمل والإجازات المؤدى عنها ، والتقاعد والولوج إلى القروض ومختلف أشكال التمويل والإستقرار الوظيفي ...وهناك فئات من الموظفين العموميين اللذين يمارسون وظائف أخرى مدرة للدخل خارج أوقات العمل أو في بعض الأحيان داخلها ، دون أن يكون هذا الدخل خاضعا للضريبة .. ومع ذلك فإن قطاع الوظيفة العمومية يرهن البلاد اليوم بحركات إحتجاجية تقترب من السعار ولا تملك أي حس بالمسؤولية وبمصالح باقي الشركاء في الوطن، وهم أزيد من تسعة ملايين مغربي يشتغلون في القطاع الخاص وينتجون بعرقهم وكفاحهم اليومي ما يجعلنا نعيش ونحيا في ظروف مقبولة وما يشكل فعليا القيمة المضافة للاقتصاد الوطني ، بدأ من بقال الحي وليس انتهاء بحارس السيارات الليلي ...حيث الأجور الهزيلة والتغطية الصحية الغائبة والمعاشات المرتعشة ، وعقود الشغل المرنة ، وساعات العمل الطويلة، وولوج قروض السكن والإستهلاك الصعبة والمستحيلة ...هؤولاء يعملون بجد وبمسؤولية كبيرة لا ينتبه البعض إلى اليوم الذي سيقررون فيه الإلتحاق بمنطق الوظيفة العمومية في الإحتجاج والإضراب..ساعتها سوف نرى الأيام السوداء التي لازالت لم تصل ، وسيلسع بها من الموظفين العموميين الذين يأخذون مصالح الناس رهينة لمطالبهم ، يوم لن يجدوا حليبا لأطفالهم ، ودواءا لأبائهم ووسيلة نقل لأعمالهم ومدارس أولادهم، ومن يعيد عداد الكهرباء والماء، ومن يطلق خدمة الهاتف بعد قطعه، ولا خبز ولا خضر ولا غذاء ..بإختصار لا شيء، ليتأمل البعض هذا الخراب ...غدا سوف يضرب حراس السجون وسيغادرون أعمالهم وسوف يختلط المجرمون بالمحتجين في الشوارع وفي البيوت ...غدا سيضرب رجال الشرطة والدرك والقوات المساعدة وستبقى مراكز الشرطة بلا مداومة ، فلا صوت يعلو فوق صوت المطالب الفئوية ، فعندما يسمح أطباء أدوا قسم أبقراط بالإضراب في المستعجلات وتحويل إحتضار الناس وآلامهم رهينة للضغط ، وعندما تضيع حقوق الناس وآجالهم في المحاكم وفي مرافق تصحيح الإمضاءات في الجماعات وفي المحافظة العقارية ...فإن الجندي المرابط في الصحراء وعلى مختلف الحدود ويتقاضى ما تعلمون وأعلم ، من « حقه « أن يترك واجباته ..فقد إختل المنطق وسار كل واحد يردد « راسي يراسي « معتقدا بذلك أنه يلوي دراع الدولة ، وكأن الدولة كائن قادم من كوكب المريخ ، أو أن هناك أبواب مفتوحة في السماء يستغلونها فرصة لتقديم كل المطالب دفعة واحدة ، قبل أن تغلق...معتقدين أنهم بذلك يحققون نصرا تاريخيا لم يأتي به زمان...والواقع أنهم بذلك يحفرون قبرا واسعا للإصلاحات المطلوبة ويدفعون البلاد لكي تكون بيد الأمنيين القساة ويضعفون مواقع من يرغبون بدفع البلاد إلى إصلاحات واقعية جدية وتاريخية ...لا يجب على هؤولاء أن يتوهموا بأن البلاد ستبقى رهينة لطموحاتهم ومطالبهم ، فالذي يأتي دفعة واحدة ..هو الموت ...وأعتقد أنه أصبح يدنوا منا بأكثر مما نتصور.
هل أنا مع المطالب ؟ نعم ، هل أنا مع التمييز في المطالب والقطاعات ؟ نعم ، هل أنا مع الإضرابات التي أصبحت عطلا مؤدى عنها ؟ لا وبشكل مطلق ، لأننا عندما نجد إضرابا يمتد على مدى أسبوع من العمل ،فإننا نكون أمام حركة عصيان مدني غير معلنة ، وشتان بين الإضراب والعصيان المدني...
بقي أن أشير بأنني لأول مرة في حياتي أقرأ عن مسيرة للأطباء داخل مستشفى ترفع فيها شعارات كما حصل في إبن رشد بالدارالبيضاء ، علما أن المستشفيات بها مرضى يحتاجون إلى الراحة والسكينة وليس جمهورا لكرة القدم ..لأول مرة أتابع أطباء يضربون في المستشفيات العمومية ويركنون سياراتهم أمام المصحات الخاصة التي يشتغلون بها طيلة أيام الإضراب المجيدة...إننا بحاجة اليوم إلى حركة للمواطنين الشرفاء لقول « لا « كبيرة وعريضة لإيقاف هذا العبث ومطاردة كل الموظفين العموميين الذين يمارسون وظائف أخرى ومحاصرتهم في أماكن عملهم غير القانونية ، والتضامن في نفس الوقت مع الموظفين العموميين اللذين يمارسون مهامهم وفقا للفضيلة وبنزاهة ، ويمارسون حقوقهم في الإحتجاج بوطنية عالية دون أن يحولوا شركائهم في المواطنة إلى رهائن لمطالب قد نتفق معها أو قد نختلف.
a_benhamza@hotmail.com
عادل بن حمزة
30-05-2011