عندما نُظِّم حفلٌ بهيج حضره أدباء، وشعراء، ومفكّرون لتتويج الشاعر [أحمد شوقي] أميرًا للشعراء، ألقى أمير الشعراء بالمناسبة قصيدةً شعرية مطوّلةً؛ ففُتح بابُ التعليقات أمام الحاضرين، وكان أول المتحدّثين هو [عباس محمود العقاد]، حيث قال في مستهل حديثه بعد سماعه لقصيدة [شوقي] وقد ذكر فيها الربيع، فقال [العقاد]: [لقد سمعنا أيها السادة شعرا يشابه صراخ الباعة في الأسواق]؛ إلى أن قال: [لقد ذكر الربيع، وهو فصل قد يكون مخْضرّا ويانعا، وقد يأتي ذات مرة جافا وشحيحا وشاحبا كأمير الشعراء مثلا…].. وقد كان [العقاد] قاسيا وشديد البغض لأحمد شوقي، وهو بغضٌ أسبابُه سياسية صرفة، وليست أدبية؛ ولا داعي لذكرها هاهنا.. الشيء نفسُه يمكن أن يقال، ونحن نسمع يوم الأربعاء، قصيدة الرئيس [العثماني] في البرلمان وقد كان أشبه بكلام الباعة في [الگورنة] البرلمانية.
ما كان [أمير الوزراء] بحاجة إلى تلك الإطالة في قصيدته الإنشائية، التي سماها تعسّفا [برنامج الحكومة]، وهو برنامج خلا من العلمية، والموضوعية والجرأة السياسية؛ لكنه كان أشبه بأرض تخفي تحت ترابها ألغاما ضد الأشخاص والجماعات، وقد كانت الآفاق سرابا، وغبارا يحجب الرؤية، وينشّط الخيال، ويغذّي الأوهام، حتى بدت قصيدة [العثماني] مليئة بالخواطر، اللهم ما كان من إشارات تدلّ على الألغام التي ستنفجر تحت أقدام المغاربة في الخمس سنوات العجاف المقبلة، خاصة حين قال إن حكومته ستستمر في [الإصلاحات] التي بدأتها الحكومة السابقة؛ ومعلوم أن لفظة [إصلاحات] قد اتخذت معنًى مذموما، وطابعا مشؤوما، لأن كل [الإصلاحات] قد طالت أرزاق العباد، ومحقت حقوق المغاربة، ومسّت أبرز المقدّسات، وهي معيشة الأمّة كما سمّاها [عمر بن عبد العزيز]، وحذّر النبي الكريم من المساس بها، لأن ذلك مصدر الغبن، والكفر نتيجة الضيق، والمسغبة.. وعند نهاية قصيدة [العثماني] ألهب التصفيقُ أيديَ البرلمانيين، وكذلك المستشارين الزائدين عن الحاجة؛ لأن مصالحهم لم تُمسّ، وامتيازاتهم لم يُنتقص منها، خاصة وأن ديموقراطيتهم قد مكّنت الأب، وزوجتَه، وابنته، من مقاعدَ في البرلمان، وهو امتياز لم تبلغْه حتى أسرة [أينشتاين]..
ما الفرق بين [مروان] الذي مس بتقاعد الصحابة، ومنهم [عبد الله بن مسعود] رضي الله عنه وكان من كتّاب الوحي، وقد كُسّرت عظامُه؛ كما مُسّ بتعويضات سيدتنا [عائشة] رضي الله عنها، حتى خرجت تحتج؟ ما الفرق بين [مروان] قاطع الأرزاق، وابنه [عبد الملك] الأبخَر، لأن فمَه كانت تنبعث منه رائحةٌ كريهة، وهو الذي خاطب القرآن الكريم لـمّا بلغه نبأُ استخلافه قائلا: [هذا آخر العهد بيني وبينك] وعند تقديمه لبرنامح الحكومة قال: [مَن أمرني بتقوى الله، ضربتُ عنقَه].. مرّ أحدهم ذات يوم بدار [مروان] فقال: [ويلٌ لأمّة محمد من أهل هذه الدار] وهو ما قلناه في حق حزب [البيجدي]: [ويل للمغاربة من أهل هذا الحزب المتمسّح بالدّين].. فالعثماني الذي رأيناه يحاضر في الدّين، وكأنه [محمد عبده] زعيم دعاة الإصلاح، ليس هو العثماني الذي رأيناه بوجه لا يوحي بالثقة، وبكلام نفاقي، وكاذب ومضلّل، حيث بدا مخلصا لأستاذه، ولسلفه [بنكيران] تماما كما كان [عبد الملك] مخلصا [لمروان]..
فلو كان هذا الرجل صادقا، ووطنيا، وجرّيئا، ومجاهدا الجهاد الأكبر، ومصلحا لألغى كل مظاهر الظلم الاجتماعي، مثْل إلغاء إصلاح صندوق التقاعد؛ وإرغام النواب على رد مبالغ السّتة أشهر التي لم يشتغلوا فيها، ولحافظ على صندوق المقاصّة، ولحذف التعويضات الباذخة للوزراء، ولاكتفى بعدد قليل من الوزراء مثل الصين التي استقبل وفدَها يوم الجمعة 21 أبريل، ولأقسم على رد ما اختُلس من الخزينة، ولامتنع عن تعيين وزراء من الحكومة السابقة، ولخصم من راتبه، ومن رواتب الوزراء والنواب وكبار المسؤولين بنسبة 10 في المائة كي لا يُضطرّ للمس بأقوات المتقاعدين، والعمّال، والموظفين، كما فعل رئيس حكومة المكسيك، ونظيره البراغويّاني، والبرازيلي، والأردني، وآخرون تعيش بلدانُهم ضائقات مالية زيادة على أن [العثماني] مسلم كما يدّعي، وتلكم أخلاق الإسلام الحقيقية والعملية، وليس الأخلاق الكلامية الوهمية في المحاضرات..
في السنة الماضية كان رئيس الوزراء الفرنسي [فالس] قد قرر المضي قدما في ما يخص قانون العمل، وصندوق التقاعد، وقال بلهجة [هتلر]:ساذهب إلى أبعد مدى؛ ولما ترشّح للرئاسيات، أقسمتُ بالله على أنه لن يفوز حتى في مرحلة التمهيديات، بسبب هذه القولة، وهو ما حصل، وقد أُذِلّ وبُهْدِل؛ لكن فعل [بنكيران] الشيء نفسَه، يوم قال بخصوص صندوق المقاصة: [وإن جاءت الصين كلها تحتجّ] وبخصوص صندوق التقاعد قال: [وإن سقطت الحكومة] ومع ذلك فاز في الانتخابات بسبب أقلية مدجّنة عنوة لذلك..
لقد تحدث [العثماني] في قصيدته عن التعليم، وتعهّد بإصلاحه، لكنه لم يبيّن كيف؟ هل سيرد عدد التلاميذ في الفصل الواحد إلى [24] تلميذا؟ هل سيحسّن ظروف التعليم في البوادي ليزيد عدد التلاميذ عن [06] في القسم، مع مساكن للمعلّمين؟ هل سيلغي إصلاح التقاعد حتى لا ينشغل المدرّس بتقاعده، وهو في ريعان شبابه؟ فهؤلاء بشر يا حبيبي؛ يتمتعون بمعرفة الأبعاد الثلاثة، وهي الماضي، والحاضر، والمستقبل، ويَعُون أن الزمن يؤدي إلى نهاية؛ فحتى الحيوان يحتاج إلى رعاية، فما بالك بالإنسان، حسبْتُك تدري! ثم تطرق للمجال الصحي، ولم يوضّحْ كيف؟ فهل قطاع الصحة هو [مروحية] مخصَّصة لمسلسلات الإخبارية التلفزية المسائية، وهي تنقل المرضى، فيما مرضى يموتون يوميا أمام أبواب المستشفيات [الورْدية].. ثم تحدّث عن مجال السكن لكنه، لم يبيّن كيف؟ وهنا يكفي أن نذكّره بمن ماتوا تحت الأنقاض في عصر الوصاية الشيوعية على القطاع.. ثم تحدث عن المعاقين، وذوي الاحتياجات الخاصة، لكنه لم يفسّر كيف؟ ونحن نذكّره بمجزرة في حق المكفوفين، اقترفها [بنكيران] فأضاف إلى أجسادهم إعاقة جسدية انضافت إلى فقدان البصر، لأنهم يهدّدون الأمن العام، ولكنهم بمطالبته بحقوقهم فهم بذلك يهددون بذخ الباذخين، وهو أمر مقدّس لا يجوز المساس به لإعطاء المكفوفين حقوقهم؛ لأن البذخ من ثوابت الحكومات، وله حماية قانونية تعاقب من يتطاول عليه..
ثم تحدث عن الفلاحة، وصغار الفلاحين، ولم يشرح كيف؟ ونحن نلفت انتباهَه إلى أن الفلاحة المزدهرة هي فلاحة الفيوداليين المخصّصة للتصدير، ولا تعاني أبدا شُحّ السحب الماطرة، ولا تتأثر بمواسم الجفاف، وأموالُها تبقى في أبناك أجنبية؛ وأما فلاحة البسطاء أي الفلاحة المعيشية، فهي التي نشتريها في الأسواق بأبهظ الأثمان في [المغرب الأخضر]، وفي [مغرب معرض الفلاحة بمكناس]؛ تالله على من تكذبون يا هؤلاء! ثم نحن في بلد يتعدّى طولُ سواحله [2800] كيلومتر من السعيدية إلى الگويرة، لكنّ أسماكَ هذه المياه مخصصة لبائعي ثروات المغرب السمكية في أعالي البحار، وأموالُها توضع في أبناك أجنبية؛ ويوم يأكل المواطن سمكا يكون ذلك اليوم يوم عيد.. فمنذ جثَمْتم على رقاب المغاربة يا السّي [العثماني]؛ وشيعَتُكم، والمتواطئون على الظلم معكم، ما زيد سنتٌ واحد في الأجور، بل زدتم في الاقتطاعات، واقتطعْتم من أجر الكادح بسبب إضرابه من أجل حقوقه، حيث اعتبرْتموه مغيّبا عن العمل؛ لكن دفعتم للّذين لم يشتغلوا طيلة (05) أشهر، ومتّعتم المغادرين من وزراء وبرلمانيين بتقاعد مريح بعد (05) سنوات عمل، فيما خصمتم من تعويضات من أفنى حياتَه وشبابه طيلة (30) أو (40) سنة؛ فماذا سيقول عنكم التاريخ؟ ماذا ستقولون لربّكم يوم لقائه، وقد حملتم ظلم أمّة، نرجوه أن لا يحشرنا في زُمْرتكم؟ آمين..
فارس محمد