مقدمة:
يبقى الخلاف حول طريقة تداول السلطة في الإسلام من أبرز الأمور العالقة بين المسلمين. ففي الوقت الذي يعتقد فيه أهل السنة مثلا بالخلافة عن طريق الشورى أو التعيين بالعهد أو حتى عن طريق القهر أحيانا، يتمسك الشيعة بالنص على علي بن أبي طالب (ع) في واقعة الغدير المتواترة عند الطرفين، ومن بعده الأئمة من آل بيت الرسول (ص)، في حين تباينت مواقف فرق أخرى في اختيار الحاكم بين الالتزام بتحديد شروط معينة أو العودة إلى الأمة لتختار لنفسها (الخوارج والمعتزلة)، حيث حاول كل فريق الدفاع عن أطروحته بالأدلة الشرعية والتاريخية التي تسعفه..
نظرية الخلافة عند أهل السنة:
يستند فقهاء أهل السنة والجماعة في طروحاتهم حول أمر تداول السلطة بالأساس على واقع الأحداث التاريخية التي عاشتها الاُمة زمن الصحابة والخلفاء، حيث أجمع معظمهم على ثلاثة وجوه:
الوجه الأوّل: اختيار أهل الحل والعقد ويطلق عليه (نظام الشورى) مما سيأتي تفصيله في هذا المقال
الوجه الثاني: العهد، حيث ينصّ الخليفة قبل موته على مَن يخلفه. كما صنع أبو بكر في عهده الى عمر، أو كما فعل عمر الذي عهد إلى ستة نفر فرض عليهم انتخاب الخليفة القادم من بينهم، أو كعهد سليمان بن عبدالملك الى عمر بن عبدالعزيز بعده، ثمّ الى يزيد بن عبدالملك من بعد عمر، حيث تنتقل الخلافة حسب هذا العهد بالترتيب الذي يحدده الموصي.
الوجه الثالث: القهر و الغلبة بالسيف: قال الإمام أحمد: الإمامة لمن غلب(1) وظاهر أن هذه النظرية بوجوهها إنّما هي نظرية تبرير، لا نظرية تشريع.
حيث يتبين ابتداء بأنه لم تكن هناك قاعدة ثابتة تستند إليها الاُمّة في تعيين الخليفة، عدا الشورى التي تجد لها سندا من الكتاب والسنة، بل يضفي عليها بعضهم صبغة الإجماع(2) فإن الآراء الأخرى لا تستند إلى دليل شرعي البتة، ولم يعرفه حتى فقهاء الصحابة قبل ظهوره على أرض الواقع.
ظروف خلافة أبي بكر (رض):
يحكي البخاري في صحيحه عن أحداث السقيفة على لسان عمر بن الخطاب (رض) فيقول: (..وانه قد كان من خبرنا حين توفي الله نبيه (ص) أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا علي والزبير ومن معهما واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر يا أبا بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا رجلان منهم صالحان، فذكرا ما تمالى عليه القوم فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين، فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم اقضوا أمركم، فقلت: والله لنأتينهم فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا، قالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ماله؟ قالوا: يوعك فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثنى على الله لما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وان يحضنونا من الأمر. فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت إداري منه بعض الحد فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل حتى سكت فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ولم يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا فلم اكره مما قال غيرها كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من أثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر اللهم إلا أن تسول إلي نفسي عند الموت شيئا لا أجده الآن فقال قائل الأنصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة فقلت: قتل الله سعد بن عبادة، قال عمر: وأنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا أن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا فأما بايعناهم على ما لا نرضى وأما نخالفهم فيكون فساد..)(3)
من خلال هاته الرواية يتبين بأن الأمر قد جاء على حين غرة، وكرد فعل على اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، ولم يكن مخططا له أو متوافقا عليه من طرف كبار المهاجرين والأنصار ممّن ينبغي أن يكونوا في طليعة أهل الحل والعقد وعلى رأسهم علي بن أبي طالب (ع) الذي كان مشغولا بتجهيز النبي (ص) إلى مثواه الأخير، ثم إن الخلاف الذي وقع بين المهاجرين و الأنصار يسلط الضوء على جانب من المعارضة التي لم تبايع أبا بكر (رض) وعلى رأسها سعد بن عبادة زعيم الخزرج.
ومن جهة أخرى، يبرر أنصار هذا الإتجاه ما ذهب إليه عمر بن الخطاب (رض) في ختام هذا الحديث من خوف الاختلاف والفتنة ، ووافقه عليه فيما بعد أبو بكر (رض) عندما سأله الإمام علي (ع) عن سر إسراعهم بهذا الأمر دون استشارة البقية، حيث قال: بلى و لكن خشيتُ الفتنة(4).
هاته الفتنة التي ستعود لتصبح طريقاً شرعياً من طرق تعيين الخليفة فيما بعد، وذلك إلى جانب ما تقدم من وجوه التوريث و القهر والاستيلاء والتغلب بالسيف، مما لا علاقة له بمبادئ الشورى التي ما زال الكثير من المدافعين عنها يتوهمون حصولها بعد وفاة الرسول (ص) لاختيار خليفته الأول.
مناقشة دليل الشورى:
قد لا يجادل أحد في منطق الشورى الذي قد يوازي اليوم ما يتعارف عليه العالم المتحضر بالديموقراطية، ولو أن هذه الأخيرة قد استوردها الغرب من اليونان القديمة وقطع أشوطا في ترسيخ مبادئها وفلسفتها في الدولة والمجتمع منذ نجاح الثورة الفرنسية في الوقت الذي كان البعض يحاول عبثا تسجيل السبق لما وقع بين المسلمين في سقيفة بني ساعدة على أساس أنه فعلا يمثل الشورى التي دعا إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: "وأمرهم شورى بينهم" (5) كأساس للديموقراطية الحديثة؟
يقول الشيخ محمد عبده في تفسير: (اُولي الأمر) معناه أصحاب أمر الاُمة في حكمها، وهو الأمر المشار إليه في قوله تعالى (وأمرهم شورى بينهم) ولا يمكن أن يكون شورى بين جميع أفراد الاُمة، فتعين أن يكون شورى بين جماعة تمثل الاُمة.. وما هؤلاء إلاّ أهل الحل والعقد الذين تكرر ذكرهم.
بهذا المنطق يذهب أصحاب هذا الإتجاه وهم أغلب علماء السنة إلى أن نتيجة الشورى ينبغي أن تكون ملزمة لولي الأمر وللنظام بشكل عام، مما يسحب عليها نوعا من الحصانة لا مجال فيه للطعن أو المراجعة.
وعلى اعتبار أن ما وقع في السقيفة يوافق ما جاء في آية الشورى، فإن الإجماع على خلافة أبي بكر (رض) لم يكن تاما، حيث وقف جزء من الأنصار (الخزرج) وجزء آخر مع علي بن أبي طالب (ع) ضد ما آلت إليه هذه الشورى داخل المدينة. ومن جهة أخرى قاد عدد من القيادات السياسية خارج المدينة تمردا ضد هذا الإختيار، حيث كان من أبرز مظاهر هذا العصيان اتخاذ قرار منع أموال الزكاة عن أبي بكر (رض) طعنا منهم في شرعية خلافته.
لكن هناك اتجاها ثانيا يمثله قطاع آخر من علماء السنة إلى جانب فقهاء الشيعة يرى بأن قيمة الشورى توجيهية فقط وليس لها قيمة شرعية في إلزام ولي الأمر بالتنفيذ. ومن هؤلاء: القرطبي، إذ يقول في تفسيره: « والشورى مبنية على اختلاف الآراء والمستشير ينظر في ذلك الاختلاف، وينظر أيّها أقرب الى الكتاب والسنّة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى الى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلاً عليه»(6)
كما يقول الشيخ محمد جواد البلاغي، وهو من فقهاء الشيعة في تفسير: "وشاورهم في الأمر"(7) أي؛ واستصلحهم، واستمل قلوبهم بالمشاورة، لا لأنهم يفيدونه سداداً وعلماً بالصالح.
حيث أن الشورى وفق هذا المنظور ليست ملزمة لرسول الله(ص)، حيث يقول تعالى في تتمة نفس الآية : "فإذا عزمت فتوكّل على الله"، مما يعني بأن القيام بالعمل يكون على أساس عزم الرسول (ص) وليس على ما يرتئيه المؤمنون. ومن ذلك قوله تعالى: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً"(8)
ومن الناحية التاريخية، وكما سبق ذكره، فإن الشورى لم تكن كنظام سياسي شرعي للحكم، لأنها جاءت كتبرير للأمر الواقع والسعي لجعله مصدراً رئيسياً في وصف النظام السياسي الحاكم آنذاك.
بين الشورى والواقع:
من المتعارف عليه، بأن الرسول (ص) كان مرجعا للصحابة وللأمة في حياته، حيث لم يترك للمسلمين أي جانب من الجوانب المرتبطة بالرسالة لم يفسره ويشرحه لهم بما في ذلك طريقة الغسل و الإستنجاء، حيث يتعارض في هذا المقام سكوته عن أمر الشورى وطريقة سلوكها وطبيعة أهل الحل والعقد كما يحلو للبعض توصيفهم، خاصة وأن هناك نصوص كثيرة تكلّمت عن اهتمام الرسول بأمر الاُمة من بعده في حياته وقبيل وفاته.
ومن هنا ينفي الشهيد الصدر (ق س) احتمال أن الرسول قد سلك طريق الإهمال ـ أي أن الرسول لم يتحرك أصلاً لإبلاغ المسلمين وتربيتهم على أمر الولاية والقيادة من بعده ـ وهذا الافتراض باطل لأنه يتعارض مع مقام النبوة المحيط(9)
ومن جهة أخرى فإن سيرة أصحاب الرسول (ص) تدل بصورة لا تدع مجالا للشكّ، على أنهم لم يؤمنوا يوما بهاته الشورى المزعومة، اذ عهد أبو بكر حين اشتد به المرض الى عمر ولم يستشر أحداً وولاّه على الاُمة دون مشورة المسلمين أو أهل الحل والعقد منهم، وسار عمر على المنهج نفسه حين عيّن ستة يختارون من بينهم واحداً وكان يقول: «لو كان سالم حيّاً ما جعلتها شورى»(10)، وكذا قوله متوعدا: "ألا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها، فمن عاد إليها فاقتلوه"(11) كما كان بعض الصحابة يراجع عمر ويسأله أن ينصّ على مَنْ يخلفه(12) مما يناقض جملة وتفصيلا الأسس التي قامت عليها نظرية الشورى ويسقط القوم في فخ التنافس مع الشيعة حول من تؤيده النصوص لخلافة للرسول (ص).
مراجع:
(1)- الأحكام السلطانية، للفراء: 20، 22، 23 .
(2)- منهاج السنّة لابن تيمية: 3/215، 217، 218.
(3)- مقتطف من حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه، الجزء8 صفحة25 كتاب الحدود باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.
(4) - ابن حجر العسقلاني: لسان الميزان ،ط 3 ، مؤسسة الأعلمي، بيروت ، 1986.
(5)- سورة الشورى – الآية 38.
(6) - الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي لعبدالرحمن عبدالخالق: 113 ـ 114.
(7) - سورة آل عمران-الآية 159.
(8)- سورة الأحزاب- الآية 36.
(9)- راجع قصة يوم الدار وانذار العشيرة وموقف الرسول في غزوة تبوك وسورة براءة وحجة الوداع ورزية يوم الخميس حين أراد النبي(ص) ان يكتب الوصية قبيل وفاته، في صحيح البخاري وغيره من الصحاح و المسانيد.
(10)- تاريخ الطبري : 3/292.
(11)- صحيح البخاري 8|210 الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا، 4|2130 ح 6830. مسند أحمد بن حنبل 1|323 ح 391. الجمع بن الصحيحين للحميدي 1|104. الجمع بين الصحيحين للموصلي 1|260. المصنف 7|431 ح 37031، 37032.
(12)- الكامل في التاريخ: 3/65.