لقد توالى إصلاح التعليم الديني منذ عهد الموحدين إلى المرينيين فالسعديين، هؤلاء الأخيرين الذين عرف عهدهم عصر النهضة العلمية الكبرى، ومرد ذلك أن بعض الملوك السعديين كانوا من أهل العلم، ويعتبر عهد العلويين من أكثر الأزمنة التي عرفت اهتماما ملحوظا بإصلاح التعليم الديني، بقصد مواكبة التحولات المجتمعية التي راحت تحصل في الواقع الدولي والمغربي على وجه الخصوص، وفي ظل هذا السياق العام برز السلطان سيدي محمد بن عبد الله بإشعاعه الثقافي والعلمي ضمن طائفة من العلماء المتألقين
كما أن فكرة الإصلاح الديني بالمغرب كانت قد تبلورت في أذهان بعض العلماء المغاربة، فقد كان لعبد الله كنون رؤية لإصلاح التعليم الديني عبر عنها في كتابه " التعاشيب " ، لذلك نجده يؤكد أن كلية القرويين يجب أن تتخصص في الدراسات الإسلامية والدينية المحضة، وفي ما يساعد على نجاحها من علوم اللغة والقرآن، على أن تكون هذه العلوم مكملة ومساعدة لدراسة مواد التخصص، لينتهي بدعوته إلى تأسيس جامعة عصرية تتألف من كليات متعددة تضم مختلف التخصصات، نظرا للعلاقة الجدلية والمهمة التي تجمع بين إصلاح التعليم الديني الذي هو أساس إصلاح المجتمع بأكمله
1 – من مضامين المقررات والبرامج إلى البناء المتأسس على خلفية القيم الجديدة :
إن قضية إصلاح التعليم الديني في المغرب تعتبر من الوجهة الدستورية من اختصاص إمارة المؤمنين التي يعود إليها أمر الحسم بشكل رسمي في قضايا الشأن الديني، ويندرج ضمنها التعليم الديني وفق ما هو منصوص عليه في الفقرة الخامسة من الفصل 41 في الباب الثالث من دستور 2011 الجديد
ونستنتج من الدعوة الحالية في عهد أمير المؤمنين محمد السادس أنها ليست الوحيدة ولا هي معزولة عن سياقها التاريخي، وإنما تأتي مندرجة في إطار مسار زمني ونسق تاريخي متتابع، وبالتالي فهي غير متقاطعة أو مؤيدة لتيار خاص، كما أنها ليست موجهة ضد تيار معين بقدر ما هي بالأساس مقاربة معرفية لمواجهة التطرف بالأسلوب العلمي، المعرفي والحقوقي الجديد الذي تفرضه مستجدات الظرف الراهن وطبيعة التحولات المجتمعية، والذي جسدته العديد من الخطب الملكية السامية المعبرة، ابتداء من ذكرى ثورة الملك والشعب في 20 غشت سنة 2012
فمنذ حصول المغرب على استقلاله الوطني في 1956 اعتمد في البداية الآليات التي تسمى تربويا بالمقررات، بعدها جاءت الخطوات المتعلقة بالبرامج والمناهج فالكاريكولوم، وهكذا فقد عرف نظامنا التربوي المغربي العديد من المناهج جلها مستورد من بلاد أوروبا، وفي السنة الموالية التي أعقبت استقلال المغرب مباشرة أحدثت اللجنة الملكية لإصلاح التعليم خلال 1957، ومع بداية التسعينات وبالضبط في 1994 سيتم الانتقال نحو التفكير في إصلاح التعليم من منظور حقوقي يروم استحضار المنظومة التربوية ضمن جدلية القيم، وفي نوع من التجاوز الواضح لمسألة الطرائق الديداكتيكية والمناهج البيداغوجية والتربوية، إذ سيشرع في تبني خطة عمل جديدة في مجالات القيم تستند بالدرجة الأولى إلى مبادئ القانون والكرامة والمساواة والحرية والتسامح والتضامن والديمقراطية والحق في البيئة السليمة
وقد انعكست بوضوح تجليات هذه الاستراتيجية الحاملة للبعد الحقوقي في البرنامج الوطني للتربية على حقوق الإنسان، ضمن ملف تربوي وحقوقي شائك ذو حساسية مفرطة، هذا البرنامج الذي رأى النور بتنسيق وشراكة بين كل من وزارة التربية الوطنية ووزارة حقوق الإنسان، في سياق دولي عام ميزه توجه الأمم المتحدة نحو إرساء عشرية الأمم المتحدة للتربية على حقوق الإنسان خلال الفترة الزمنية الممتدة من سنة 1994 إلى 2004
2 – من الاستراتيجية القيمية إلى التأصيل لعقلانية "المفاهيم " المتنورة :
ظلت المناهج الدراسية في المؤسسات التربوية المغربية وإلى عهد قريب تحفل بالعديد من المفاهيم التي تمس بقيم الإخاء والتسامح والمساواة، وعلى سبيل المثال لا الحصر مفهوم الجهاد الذي ظل في موروثنا الثقافي ومخيالنا الجمعي مقترنا بالقتال، وقد رسخ ذلك كون المذاهب الفقهية الأربعة من المالكية والشافعية والحنفية والحنبلية أجمعت على تعريف الجهاد بأنه قتال الكفار من غير المسلمين، ولم يخرج أغلب الفقهاء عن هذا التصور، كشيخ الإسلام ابن تيمية الذي عرف عنه الاستفاضة في الحديث عن الجهاد، وعن حكمه وأسبابه وشروطه، مع أن الحديث النبوي الشريف يقدم تعريفا رائعا لمعنى الجهاد في الإسلام " المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه "
بهذا المعنى إذن يكون الجهاد معركة داخلية تتأجج في أعماق النفس البشرية بين الإنسان ونفسه، أو بين نوازع الخير ونوازع الشر التي تتحرك في عقل وقلب كل إنسان، والاجتهاد كذلك مثل الجهاد تعرض لتمويه وتحريف كبيرين في تاريخ المجتمعات الإسلامية، وإن كان القرآن الكريم لم ينص عليه كما هو الأمر بالنسبة للجهاد الذي حظي بذكر وشهرة كبيرين لعدة اعتبارات، وعليه فإن الاجتهاد في شؤون الدين والدنيا لا يصح احتكاره من قبل فئة محدودة من الضالعين في علوم الدين، بل هو أمر يهم كافة المسلمين مصداقا لقوله تعالى : " وأمرهم شورى بينهم "، كما حدث في أوروبا منذ القرن السابع عشر الميلادي مع فلاسفة الأنوار، حيث تم التوصل إلى ابتداع مفهومي الابتكار والبحث العلمي اللذين في حقيقة جوهرهما ليسا إلا مظهرين جديدين لمفهوم ديني عريق وأصيل هو الاجتهاد ...
3 – إمكانات التجديد والتحديث المتاحة في مجالات الفقه والموروث الإسلامي :
هناك أبواب في الفقه الإسلامي التاريخي تحتاج إلى تغيير، منها باب سد الذرائع، من قبيل ما يسمى "بنكاح الأطفال" الذي يقابله حقوقيا الاعتداء الجنسي على الأطفال، كما حدده الفقهاء بقولهم : إن الحد الأدنى لسن الزواج هو تسع سنوات اعتمادا على قوله تعالى " واللائي لم يحضن " فقد فهمها الفقهاء على أنها للأطفال، علما أن هذا السلوك في عالم اليوم يعد جناية كبيرة واغتصابا للأطفال القاصرين، وهي الحالة التي ينطبق عليها كل من يعاشر طفلة لم تبلغ سن الرشد والنضج الجنسي، فالله تعالى حدد سن الرشد عند الأطفال بالبلوغ الجنسي " وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح "
وفي هذا السياق يمكن حسب بعض الدراسات في الموضوع، عدم اعتبار العديد من الأحاديث مصدرا للتشريع أو تشريعا ثابتا إلى يوم القيامة، بل هي تنظيما يتغير بتغير الأحوال لأنها جاءت وفق شروط موضوعية مخصوصة، موجهة فقط لمن عاصر الرسول محمد عليه السلام من أفراد مجتمعه، مثل قوله (ص) : " لا تسافر امرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم " وقوله " ما أفلح قوم ولوا أمورهم امرأة " و "النساء ناقصات عقل ودين "، وأن الأحاديث التي يقاس عليها وتؤخذ بعين الاعتبار هي التي يكون لها بعدا إنسانيا عالميا، وهي الخطوة الضرورية والإيجابية التي يمكن أن نعيد فيها للإسلام بعده العالمي، والسنة الوحيدة الدائمة هي سنة الله
ونفس الأمر ينطبق على مفهوم القياس لدى علماء أصول الفقه، والذي يرمي إلى قياس الشاهد على الغائب، والقياس يوقف الإبداع، لأن العقل القياسي عقل عاجز عن إنتاج المعرفة، فهو بحاجة دائمة إلى أصل لكي يقيس عليه، وإنما يقاس الشاهد على الشاهد بالبنيات المادية الإحصائية، وكذلك الإجماع على أنه إجماع الصحابة، ومفهوم عصمة الأئمة وإعطائه الصفة الأبدية، فالإجماع هو إجماع الأحياء لا إجماع الأموات، والتشريع الوحيد الشمولي والأبدي هو المحرمات الواردة في كتاب الله، وقد أبدعت الإنسانية طرقا معاصرة جديدة هي الأنظمة الديمقراطية ذات العمق الدستوري والمؤسسات البرلمانية المنتخبة كطريقة للإجماع والتشريع، وهو إجماع مناسب جدا أكثر من إجماع أي مجتمع انقرض وأصبح في عداد المندثرين
من هنا يظهر مدى الحاجة الموضوعية إلى جعل القراءات الجديدة للقرآن الكريم كمادة في الدراسة الجامعية، لكونها ستسهم في رسم علاقة ديناميكية ومتجددة باستمرار مع نص التنزيل الحكيم، وفي نفس الوقت الابتعاد عن أسلوب التكفير والتفسيق والتبديع، ومواجهة الفكرة بالفكرة والحجة بالحجة، كما أنه جميل جدا أن نفهم أن الإسلام ليس دين الرسالة المحمدية فقط، بل هو دين جميع الرسالات والرسل والأنبياء، وأن المسلمين ليسوا فقط أتباع محمد صلى الله عليه وسلم كما هو سائد اليوم، وإنما كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا والتزم بالمثل العليا المستقيمة
لذلك يكون المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري صائبا عندما قال بفكرة " التناص " والوحدة بين الأديان المنزلة أو الديانة الإبراهيمية، في أفق الديانة العالمية، وهو الموقف الذي يفهم منه القول بالتسوية النصية بين الكتب المقدسة الثلاثة، القرآن، الإنجيل، والتوراة ..