فرنسا أرض الغرائب عبر التاريخ؛ فليس غريبا أن تكون أرض السريالية، وقد أبدعها الأديب الفرنسي [أندريه بروتون: 1896 - 1966] ويعتبره النقاد [بابا السريالية] التي امتدت إلى الرسم، والسينما، والشعر، وقسْ على ذلك؛ فليس غريبا أن تمتد إلى سياسة فرنسا كذلك.. ومن آخر الإنجازات السريالية الفرنسية، هو ما عرفه قصر [الإليزي] مقر الفضائح، ومعقل التبذير، ووكر الخلاعة، وَنفَقُ الدسائس؛ فمنذ أيام، أصدر ثلاثة صحفيين كتابا يكشف عن قاعة مظلمة، أو مكتب سرّي في [الإليزي]، وهو ما أسماه المثقفون [فضيحة دولة]، وما زال البحث جاريا في هذا الشأن، وهي فضيحة تنضاف إلى فضائح عُرف بها بعض المرشّحين، لتولّي منصب [الرئاسة الملكية] إشارة إلى الانتخابات الرئاسية الفرنسية.. فماذا حدث؟
يوم السبت 15 أبريل الجاري، ترأّس الرئيس [فرانسوا هولاند] في [الإليزي] العجيب، حيث التاريخ الغريب، مراسمَ أُقيمت تكريما لمقاتلين سنيغاليين، وكذلك كونغوليين، وغيرهم من الأفارقة الذين حاربوا في صفوف الجيش الاستعماري الفرنسي في [ڤيتنام]، ومُنِحت لهم، وقد تجاوزوا (80) سنة من عمرهم، الجنسية الفرنسية، فأشاد بهم الرئيس، واعتذر لهم عن الظلم الذي لحق بهم طيلة (60) سنة خلت.. لقد شارك الأفارقة المساكين مكرهين في (1870)، حيث انهزمت فرنسا أيام [نابليون الثالث] أمام [بروسيا]، وبهدف الإذلال والتشفي، تُوِّج [ويلهيلم الأول] إمبراطورا في قاعة [المرايا] في قصر [فيرساي]، وتجوّل الإمبراطور الألماني في شوارع [باريس]، كما شارك هؤلاء الأفارقة في حرب استعمارية فرنسية في [ڤيتنام]، حيث ضُربت فرنسا على قفاها في معركة تاريخية ملحمية أنجزها الڤيتناميون البواسل، وهي معركة [ديان بيان فو]، وخرج الفرنسيون من جوهرة آسيا تَرْهَقُهم ذِلّة..
ما كان لهؤلاء الأفارقة قَبُول الجنسية الفرنسية، وقد بلغوا من العمر عُتيًا.. فتلك الحرب التي خاضوها في [ڤيتنام] ضد رفاقهم في السلاح في الحرب العالمية الثانية، لا تشرّفهم، ولا ترفع من شأنهم لو كانوا يعْلمون؛ لأنهم خاضوا حربا ضد بلد مستعمَر، وهم أيضا قدِموا من بلدان مستعمَرة، وعدوّهم واحد هو الاستعمار الفرنسي البغيض. كان عليهم أن ينشئوا جمعية للتبرُّؤ من تلك الحرب التي خاضوها ضد شعوب مستعمَرة، إلى جانب الجيش الاستعماري الفرنسي.. كان عليهم، قبل أن يموتوا، الذهاب إلى [ڤيتنام] الباسلة، وتقديم الاعتذار والعزاء للشعب الڤيتنامي، بدل الذهاب إلى [الإليزي] لنيل مكافأتهم على ما اقترفوه من جرائم في بلاد غيرهم.. فالتعويضات التي كان من حقهم المطالبة بها هي الخاصة بالحرب العالمية الثانية، وليس حرب [الهند الصينية] التي تهينهم، وتحطّ من قدْرهم، مما يتطلب منهم الذهاب إلى الكنيسة لطلب الغفران إذا كانوا مسيحيين، أو الاستغفار إذا كانوا مسلمين..
نحن لا ننكر أن مغاربة حاربوا في [ڤيتنام] ومنهم أخوالي، وأعمامي، وأفراد من أسرتي، حتى لا يقال إني أبالغ، لأن المبالغة أخت الكذب كما يقول [العقّاد]، حسبي الله! فهناك بعض المغاربة سمعوا جنودا فرنسيين يسْخرون من جلالة الملك محمد الخامس طيّب الله ثراه لـمّا نفته فرنسا؛ فأخذتْهم الغيرةُ على ملكهم ووطنهم، فالتحقوا بالجيش الڤيتنامي، وحاربوا إلى جانبه؛ ولـمّا انتهت الحرب، استقرّوا في [ڤيتنام] وتزوّجوا وعاشوا هناك؛ قد يسألني القارئ: لماذا لم يعودوا إلى المغرب وقد تحرّر من الاستعمار البغيض؟ لو كانوا قد عادوا إلى المغرب، لكان [أوفقير] قتلهم بتهمة الخيانة، واللجوء إلى العدو الڤيتنامي؛ لأن [أوفقير] كان ضابطا كبيرا في [فيتنام]، وكان مخلصا لفرنسا؛ هل تعلم أنه كان يستخدم قاذفات اللهب ليلا لحرق المداشر الڤيتنامية والناس نيام، فيُحْرقون أحياء وهو ما جعل الفرنسيين يلقّبونه [le monstre]؟ لكنْ بعد موته، عاد كثير من المغاربة، واستثمروا في بلادهم، وما زال الڤيتناميون يذْكرونهم بخير إلى اليوم.. [أوفقير] كان بمثابة كلب من نوع [دوبيرمان] كلما تقدّم في السن، ازداد خطرُه؛ لكنّ إرادة الله عزّ وجلّ كانت أقوى من إرادته، وقد كان يبيّت شرّا لهذا البلد الأمين.. النازية لم تعمل شيئا جيّدا إلا عملين اثنين: الأول هو أنها فقأتْ عيْن [موشي دَيان] الصهيوني؛ والثاني هو أنها خَربَتْ عين [أوفقير] في معركة [مونتي كاسّينو] في إيطاليا سنة [1944].. خلاصة القول، هو أن الحرب إلى جانب الحلفاء ضد النازية كانت حربا مشرّفة، ومن أجل الحرية، والمثل العليا؛ أما الحرب إلى جانب فرنسا الاستعمارية، فهي جريمة ضد الإنسانية، ولا يجوز قبول تعويضات عنها أو قبول جنسية من فرنسا التي لم تتخلّص من عقدة الاستعمار والعنصرية…
فارس محمد