قال الملك محمد السادس، في خطابه بمناسبة الذكرى الـ39 للمسيرة الخضراء، إن قضية الصحراء بالنسبة إلى المغرب هي قضية "وجود لا حدود"، وأن المغرب على طاولات المفاوضات "لا يفاوض على سيادته ووحدته الترابية"؛ وهي كلمات تعبر عن رؤية تاريخية جديدة في منهجية معالجة قضية الصحراء، حيث يتم التركيز على البعد التاريخي والهوية الثقافية المشتركة بين المغاربة شمالا وجنوبا عوض الحديث عن الأرض والحدود.
فلنأخذ هذه المقاربة الوجودية كنقطة انطلاق لوضع مجموعة من الأسئلة المبدئية حول كيفية معالجة هذه القضية من منظور ثقافي يهتم بالعنصر البشري، والمجتمع والثقافة والهوية التاريخية المشتركة بين كافة المغاربة.
إن اختزال موضوع الصحراء في مفهوم استكمال الوحدة الترابية يعتبر، في نظرنا، تسليعا سلبيا لهذه القضية؛ فحتى كلمة "وحدة ترابية"، يجب إعادة النظر فيها، لأننا نحن أصحاب أرض، ولا نفاوض على أرضنا، بل نفاوض أطروحة انفصالية حول إمكانية مراجعة مواقفها، وتبني حكما سياسيا لا يضر بسيادة الوطن ووحدة هويته ومجتمعه.
فلهذا، جاءت مبادرة الحكم الذاتي لتعزز رغبة الدولة المغربية في منح مواطنيها في الأقاليم الجنوبية حرية إدارة شؤونهم السياسية والاقتصادية في إطار مشروع جهوية موسعة يتم تطبيقه تدريجيا بجميع أنحاء المملكة.
منذ نشأة هذا الصراع المفتعل، والدولة المغربية، ملكا وحكومة، تعتبر نفسها المحامي الوحيد في قضية الصحراء، إذ احتكرت النقاش حول هذه القضية في دواليب المنشآت الملكية مثل الكوركاس والآلة الدبلوماسية والوزارات السيادية؛ لكن بعد مبادرة الحكم الذاتي، انتبهت الدولة تدريجيا إلى إقحام بعض المؤسسات الحكومية وغير الحكومية في مناقشة القضية الوطنية والدفاع عنها. كما افتتح مركز للدراسات الصحراوية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط قصد تشجيع البحث العلمي المتعلق بالصحراء وحفظ الذاكرة الحسانية.
وفي هذا السياق، تحدث التصريح الحكومي الأخير، عبر لسان سعد الدين العثماني، عن إشراك البرلمان والمجتمع المدني في إطار الدفاع عن القضية الوطنية؛ لكنه مع الأسف انساق وراء الطرح الكلاسيكي القديم المدافع عن الأرض والحدود والتراب، فتجاهل عنوة الحديث عن خصائص مجتمع جنوب المغرب الثقافية، وعن هويته التاريخية المشتركة، بل تطرق رئيس الحكومة لتدابير تعزز مكانة اللغة والثقافة الأمازيغية، كما جاء في دستور 2011، دون أن يعرج في طريقه الطويل الحافل بالوعود والتطلعات على رافد مهم ومكون أساسي في الثقافة المغربية، ألا وهو اللغة والثقافة الحسانية.
وهنا، نتساءل عن هذا التراجع الحكومي في مقاربة القضية الصحراوية: لماذا تضمن البرنامج الحكومي مقاربة القضية بمنطق النزاع حول الأرض والتراب والحدود.
إن منطق الدفاع عن الأرض واحتجاز قضية الصحراء داخل ردهات المؤسسات الحكومية والدبلوماسية المغربية يعتبر مقاربة فوقية لا تخدم تدويل القضية بشكل إيجابي كما ينبغي؛ لأن قضية الصحراء في عمقها التاريخي ليست قضية ملك وحكومة، بل هي قضية شعب وهوية.
ولا داعي أن نذكر هنا بالأخطاء التاريخية التي ارتكبت في الماضي، ثم استغلها الخصوم في المجتمع السياسي الجزائري لتغذية النعرات الانفصالية بجنوب المغرب. وهكذا، تمت شخصنة الصراع في حركة البوليساريو منذ استرجاع هذه الأقاليم الجنوبية.
يبدو أن الدولة المغربية ما زالت، مع الأسف، تتشبث بمقاربات تقليدية بالية تجوزت علميا في تناول قضايا حساسة من هذا القبيل، إذ لا يعقل أن العالم بأسره يعيش ثورة تكنولوجية حولت مجتمعاته إلى محطات التقاط إرسال قنوات تلفزيونية وإشارة الشابكة، بينما نحن نكتفي بالقنوات الرسمية لتدويل قضيتنا والدفاع عن هويتنا المشتركة.
هنا، نطرح السؤال: لماذا تغيب قضية الصحراء عن وسائل الإعلام؟ وحينما تحضر، يتم تغطية الأنشطة الملكية والدبلوماسية والوزارية المدافعة عن القضية؟ هل هذا هو الحضور الإعلامي المفترض لقضية الصحراء؟ هل هذا كاف لتسويق القضية بشكل إيجابي؟ كيف نستطيع تسليع قضيتنا بشكل يصل إلى الشعب المغربي قاطبة، وهو المعني الأول والأخير بقضيته، ثم إلى باقي العالم، حكومات وشعوب؟
أولا، يجب أن نعيد صياغة المفاهيم ومناقشتها في إطار علمي يتبنى مقاربات متعددة التخصصات؛ فنحن لا نفاوض على تراب ووحدة وأرض، كما جاء في التصريح الحكومي.. نحن أصحاب الأرض، ولا ندافع عن وحدة ترابية، لأن قضيتنا ليست هي القضية الفلسطينية، فنحن لا نبحث على وطن، ولا على حدود، بل نحن شعب ووطن له سيادة من الشمال إلى الجنوب، وروافده متعددة ولغاته متعددة. لهذا، نحن ندافع عن هوية وتاريخ ولغة مشتركة، نحن ندافع عن مجتمع الجنوب وحقه في الوجود بلغته وثقافته المغربية المرتبطة بهويتنا جميعا، شمالا وجنوبا، وشرقا وغربا عبر التاريخ.
ثانيا، استكمالا لهذا المشروع الثقافي، أصبح الآن ضروريا تسويق الثقافة الحسانية المغربية في الداخل والخارج عبر قنوات تلفزيونية وطنية متخصصة يتم إنشاؤها لهذا الغرض، حيث لا مناص لنا من إحداث قناة تلفزيونية ناطقة بالحسانية، وأخرى ناطقة بالإنجليزية لتسويق القضية المغربية والتعريف بالهوية التاريخية للمغاربة شمالا وجنوبا، غربا وشرقا، حتى يتعرف المغاربة البسطاء منهم والنخبة، وباقي سكان العالم على الامتداد التاريخي وجذور الحسانية المغربية الضاربة في عمق الهوية الأمازيغية العربية.
يعتبر البث التلفزيوني على الهواء وعلى الشابكة من الوسائل الناجعة للتعريف بقضية الصحراء، ونمط عيش سكان الأقاليم الجنوبية. وهذه الثورة الإعلامية سوف تمكننا كذلك من تشجيع السياحة الداخلية والخارجية إلى هذه المناطق. نحن لا نطالب بإنشاء قنوات الفرجة والطرب الغنائي الصحراوي فقط، بل نطالب بتسويق برامج علمية جادة حول الثقافة الحسانية وتاريخ الصحراء بتنسيق مع مركز الدراسات الصحراوية بالرباط، والباحثين في شؤون المنطقة.
لنكن صرحاء مع أنفسنا، كم من مغربي في الداخل مضطلع بالثقافة الحسانية وتقاليد الصحراويين وطقوسهم ونمط عيشهم في الصحراء؟ وكم منا يجهل خصائص النسيج العشائري القبلي الصحراوي، ومدى تقاطعه مع النسيج القبلي الأمازيغي؟
إن هذه الوسيلة المرئية ستستقطب كذلك الصحراويين في الداخل والشتات لمتابعة قضاياهم، والتعرف على تاريخهم، ومشاهدة تقاليدهم وعوائد هم، وتوحد كلمتهم للدفاع عن هويتهم المغربية المشتركة.
إن المجتمع الصحراوي ليس في حاجة فقط إلى حلول اقتصادية تمكنه من الحصول على عمل وامتلاك شقة أو الحصول على معونة عن طريق "الكارتية"؛ بل هو في حاجة إلى غذاء روحي، يغذيه ثقافة حسانية تمنحه شعور الانتماء إلى وطن وهوية وتاريخ يلملم جراح الشتات، وفراق الأحبة، ويستقطب من يعاني في الضفة الأخرى من أسرى الانفصال.
وليسجل التاريخ: ما دام المغرب يسوق قضية الصحراء باعتبارها قضية وحدة ترابية، وبأنه استرد أرضا كانت ترزح تحت الاحتلال، مهتما فقط بالأرض والحدود، دون الأخذ بعين الاعتبار العنصر البشري والثقافة والتاريخ من ضمن أوليات تسليع القضية وتسويقها عالميا، فهذا لن يكون مؤثرا بما فيه الكفاية في المجتمع الدولي.
بالمختصر المفيد، إن قضية الصحراء ليست قضية أرض وجغرافيا ومساحات وموارد طبيعية؛ بل هي قضية مشروعية تاريخية وعمق ثقافي يوحد جميع الأقاليم المغربية.