تقديم:
تختار الجزائر، مرة أخرى، أن تتنصل من مسؤوليتها عن إيواء المهاجرين السوريين الذين توهموا حسن الضيافة في بلد الثورة والثروة؛ فتجرجرهم عبر الفجاج الجبلية الوعرة المفضية إلى مدينة فجيج المغربية.
لا يسع المواطنين المغاربة، اليوم في فجيج، كما الأمس القريب في حدود وجدة، مع السوريين أيضا؛ وكما الأمس البعيد، حينما كان المهاجرون مواطنين من الشعب الجزائري، الذي قهرته الآلة العسكرية الفرنسية؛ لا يسعهم إلا أن يفتحوا أذرعهم بكل أريحية لهؤلاء السوريين المطرودين من تراب الجزائر، وهم المستضعفون المهجرون من ديارهم، إجراما ليس إلا.
ولتشابه النازلتين الجزائريتين، في وجدة وفجيج، أقترح إعادة نشر الموضوع، حتى يتأكد للجميع أن لكل دولة من أمرها ما تعودت، مستعيرا عبارة الشاعر المتنبي.
فمهما بخلتم ستجدوننا كرماء؛ وسنترك لكم أن تتشدقوا بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، ما دمنا نعلم أن الشعب الذي اكتملت كل شروط تقرير مصيره هو الشعب الجزائري الشقيق، ولن يمضي حين من الدهر حتى يفعل.
جاء في مجمع الأمثال للميداني: "..إن العرب تحمد تلقي الضيف بالقِرى (الإكرام) قبل الحديث، وتعيب تلقيه بالحديث والالتجاء إلى المعذرة والسعال والتنحنح. ويزعمون أن البخيل يعتريه عند السؤال بَهْر وعي، فيسعل ويتنحنح، وأنشدوا لجرير في هجاء الأخطل التغلبي:
والتغلبي إذا تنحنح للقِرى حك أسته وتمثل الأمثالا
ويحكون أن جريرا قال: رميت الأخطل ببيت لو نهشته بعده الأفعى في أسته ما حَكَّها، يعني هذا البيت".
لعل هذا الذي كرهته العرب هو ما وقع فيه حكام الجزائر هذه الأيام؛ فبدل المبادرة بإكرام ضيوف سوريين، من نساء ورجال وأطفال، ألجأتهم ظروف بلدهم القاسية إلى الهجرة صوب أشقائهم العرب، وخصوصا عرب النفط؛ التأم شمل كبار الجنرالات ورجال الدولة والتفوا حول عزيز الجزائر، بعد أن تناهى إليهم حلمه المرعب، ليلة علمه بوصول رائحة الثورة السورية إلى مطار هواري بومدين. لقد رأى -على غرار عزيز مصر- سبع بقرات سمان تأكلهن سبع عجاف.
ينظر، مرعوبا، إلى كبار الدولة ويسأل: هل يطالبون بتقرير المصير؟ يجيبون دفعة واحدة: لا يا فخامة الرئيس إنهم يبحثون عن الخبز فقط.
يرد بغضب: ونحن ما دخلنا في هذا؟ نحن متخصصون، فقط في حق الشعوب في تقرير مصيرها. ثم يجهش بنحنحة تغلبية متقطعة ويقول:
لكن مهلا، يا رجال الثورة، هذه فرصتنا لنجعل المغرب يحتضن، بدوره، بوليساريو سوريا؛ حتى نتعادل في هذه أيضا؛ لا يمكن أن يكون البوليساريو من نصيبنا فقط. لنتقاسم الورطة أيضا؛ والبلاء إذا عم هان.
ويواصل محتالا على نحنحة لازمته: في بلد الثوار والمليون شهيد، لا تنشغل الدولة بأمعاء الناس بل بأدمغتهم .
لا يهم أن يجوعوا، بل المهم أن يحلموا، لأن الحلم يسمو بهم إلى معارج الثورة حيث إرادة القوة، والإنسان الأعلى، والعود الأبدي، كما يقول فيلسوف ألمانيا الكبير؛ أما الخبز فيفضي بهم إلى المراحيض فقط.
وهل يبلغ جيراننا مبلغنا، وهم لا يتركون أرضا إلا حرثوها، ولا جائعا إلا شغلوه بمعدته إطعاما؛ حتى لا يرى إلا ما يراه البقر.
انظروا إلى النسور كيف تحلق عاليا، وكيف تترك السفوح لبغاث الطير.
انظروا إلى أشبال الجمهورية الصحراوية كيف ترفعوا عن الرفاهية التي يعرضها عليهم جيراننا، معززة بالرحمة والمغفرة، وفضلوا السمر تحت الخيام، والاستماع إلى أناشيد الأعالي، معلقات الثورة الجزائرية التي لم تنته بعد .
يرفع أصبعه ليراه رجال الدولة واضحا منتصبا، ولا يظنوا به الظنون ويقول:
حذار من بِطنة الشعوب فإنها تُذهب الفِطنة وتقتل الثورة.
وبعد أن أغرق نحنحته في جرعة ماء، وشد بيمناه على أصابع يسراه حتى لا يتفلت منها أصبع، استجابة لإغراء تغلبي قديم أبدع جرير في تصويره، واصل :
سأقص عليكم أحسن قصص الثورة الجزائرية؛ وكيف كاد لها الجار بالخبز فقط:
حينما بدا للثوار ألا قِبل لهم بالمستعمر قوة وعتادا، انحاشوا، مدنيين وعسكريين، صوب وجدة - تماما كما يفعل السوريون اليوم- لكن ليس من أجل الخبز، بل كان في نيتهم أن يزرعوا فيها بذور الثورة، تحسبا لغد قريب لا يمكن أن تنجح فيه الاشتراكية الجزائرية دون جيران اشتراكيين.
كان خبز الوجديين وكرمهم الحاتمي هو سبب فشل مشروعنا، لأن جياعنا قايضوا الثورة بالخبز. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تشكلت فيالق رأسمالية من حملة الخبز والسلاح المغاربة، وعبروا صوب الداخل الجزائري، ليذهبوا بفطنة الثوار وهم يطعموهم حتى الشبع.. ولما تحقق لهم ما خططوا له شرعوا في تخزين السلاح الرأسمالي الملكي بأرض الثورة الاشتراكية، وشكلوا خلايا نائمة، خصوصا في منطقة القبائل.
هذا ما يفسر الانشقاقات التي عانت منها الدولة الجزائرية الفتية، وصعود الرأسماليين الجزائريين مرارا إلى الجبال.
وحينما انتصرت الثورة على كيد الجيران، ولم تعد لهم جبهة رأسمالية داخلية هاجمونا انطلاقا من فكيك في ما يسمونه حرب الرمال؛ وهي في الحقيقة حرب الرأسمالية؛ وقد عززنا في محاربتها، كما تعلمون، الزعيم جمال عبد الناصر.
حينما بدا لجيراننا ألا قدرة لهم على عقولنا التي لم تنشغل أبدا بإطعام الشعب، حفاظا على جذوة الثورة؛ أعلنوا علينا حرب الحشيش ليلازم شبابَنا حُلمُ الخبز، بل الرفاهية الرأسمالية .
وإذا كنتم تسمعون اليوم من يتحدث عن معامل جزائرية للقرقوبي، شيدناها قاب كيلومترات معدودة من وجدة؛ وهي توزع منتوجها بالمجان على كل المهربين الجزائريين، وتشرح لهم كيف أن كل "سمطة" تدخل إلى المغرب تحسب في ميزان حسناتهم الثورية، فعليكم أن تصدقوه لأننا نعتبر هذا العمل واجبا وطنيا؛ خصوصا وقد أكدَ لنا خبراؤنا أن القرقوبي- خلافا للقنب المغربي- سلاح دمار شامل للاستقرار، لأنه يدفع صوب الثورة والفتك حتى بالأصول والفروع، اجتثاثا لكل منزع لبرالي.
أما نواة النظام الاشتراكي الثوري الذي سنرسيه في المغرب فهي هذه الجمهورية الصحراوية التي تتدرب- قادة وجماهير- في تندوف؛ والتي خططنا منذ اقتطاعها من المغرب لتكون قاعدة من لا قاعدة له فيه.
ويختم الرجل المريض بقوله: ها قد أفضيت إليكم، وأنا مُودِّع قريبا، بأسرار الدولة؛ واعتبروا ما قصصته مكاشفة ووصية، أنقلها إليكم كما تلقيتها من رئيسي وحبيبي وشيخي هواري بومدين.
وإن وُلِّيتُها، مُعافى ورابعة، رغم حسد الشباب، فسأنقل الجزائر إلى مصاف الدول النووية حتى لا يهزمنا المغرب بخبزه مرة ثانية.
يُهمهِم الجنرالات متهيبين: وماذا نفعل بالسوريين؛ بهذه السبع العجاف التي أرقت نومك، وهي تلتهم الجزائر؟ قلتم لا يريدون تقرير المصير، وقد فروا من عرين حبيبنا القومي، الثوري والممانع بشار بن أبيه، وهم خبزيون فقط؛ إذن افتحوا لهم الحدود المغلقة، فخبز وجدة في انتظارهم كما كان في انتظارنا، مقيمين ومهاجرين؛ وحذار أن تتركوا هذا الخبز يتسرب إلى الجزائر. نحن نربي على الجوع والثورة؛ ولا نساعد إلا على تقرير المصير.. لا ننشغل بالخبز ولا نشغل به أحدا.
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ** حك أسته وتمثل الأمثالا
ورحم الله جرير