وكنت أتعشي هناك عند الخادم حيث كان يهيئ لي الطعام ، وأيام الجمعة ( وهي عيد المسلمين ) لم أكن أذهب إلي العمل ، أما سائر الأيام فقد كنت أذهب إلي نجار هناك أشتعل عنده لقاء أجر زهيد كان يدفعه لي أسبوعياً ، وحيث كان عملي في فترة الصباح فقط فقد كان يجري لي نصف أجور سائر عماله ، وكان أسم النجار ( خالد ) وكان يثرثر في أوقات فراغه عن فضائل ( خالد بن الوليد ) الفاتح الإسلامي الذي صحب محمداً النبي وأبلي في الإسلام بلاء حسنا ، لكنه كان يجر في نفسه أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما تولي الخلافة عزل خالد بن الوليد .
وكان خالد صاحب المحل سيئ الأخلاق عصبى المزاج إلي أبعد حد ، وكان يطمئن مني أطمئنانا لم أدر سببه ، ولعله وثق بى حيث كنت سامعاً مطيعاً له ، لا أناقشه في شئونه الدينية ، ولا في شئون دكانه .
كنت أتغذي في الدكان ، ثم أذهب للصلاة في المسجد ثم أبقي في المسجد إلي وقت العصر ، فإذا فرغت من صلاة العصر ذهبت إلي دار ( الشيخ أحمد ) وأبقي معه مدة ساعتين أتعلم عند القرآن ، واللغة التركية ، واللغة العربية وفي كل جمعة كنت أدفع له زكاه ما حصلت عليه في الأسبوع من المال ، وفى الحقيقية الزكاة كانت رشوة مني له لأستمرار علاقتي به ، ولأجل أن يعلمنى أفضل تعليم وكان هو لا يقصر في تعليمي القرآن ومبادئ الإسلام ودقائق اللغتين العربيه والتركية .
ولما علم الشيخ أحمد أنى أعزب طلب إلي أن يزوجنى إحدى بناته ، لكني أبيت ذلك بحجة أنى ( عنين ) لا أملك ما يملكه الرجال ، ولم ابد له هذا العذر إلا بعد أن أصر وكان أن ينفصم معه علاقتى من أجل أنه كان يقول : الزواج سنة الرسول ، وقد قال الرسول " من رغب عن سنتي فليس مني) وحينذاك لم أجد بدأ من إظهار هذا المرض ( المكذوب ) له ، فأقتنع الشيخ وعادت العلاقة كما كانت من الود والصفاء .
عودة مستر همفر إلي لندن :
بعد إتمام سنتين من مكثى في ( الآستانة ) أستأذنت للعودة إلي وطني ولكن الشيخ لم يأذن قائلاً : لماذا الرجوع ، إن الآستانة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وقد جمع الله فيها بين الدنيا والدين ، وأردف ، إنك قلت سابقاً إنه مات أبوك وأمك وليس لك أخوة فأجعل الآستانة وطنك .. وكان الشيخ يصر علي في البقاء لأنسه بى ، وكنت أنا أيضا أنست به أنسا كبيراً ، لكن الواجب الوطني كان يجبرنى بالرجوع إلي لندن لتقديم تقرير مفصل عن الأوضاع في عاصمة الخلافة ، ولا تزود بأوامر جديدة حول مهمتي .
وقد جرت العادة – طيلة مكثى في الآستانة – أن أقدم كل شهر تقريراً عن حالي وعن التطورات وعما شاهدته إلي وزارة المستعمرات .
وفي يوم الوداع مع الشيخ أنهمرت عنياه بالدموع ، وودعنى قائلا : الله معك يا ولدى ، وإذا عدت إلي هذا البلد , وأنا ميت فأذكرني ، وسوف نلتقي عند رسول الله ﴿-;- -;- وآله﴾-;- في المحشر ، وفي الواقع أنني تأثرت تأثراً بالغاً وجرت دموعى حارة ، لكن الواجب كان فوق العواطف.
أحوال بقية المبعوثين :
كان الرفاق التسعة الآخرون تلقوا أوامر من الوزارة لحضورهم إلي لندن كما تلقيت أنا أيضا ، لكن من سوء الحظ لم يرجع منا إلا ستة فقط.
أما الأربعة الآخرون فقد صار أحدهم مسلماً وبقى في مصر – كما أخبرناً بذلك السكرتير – لكن السكرتير أظهر ارتياحه بأنه لم يفش السر .
كما التحق أحدهم بروسياً – وقد كان هذا من أصل روسى – وكان السكرتير يبدي قلقاً شديداً حوله ، لا لأنه التحق بالوطن الأم ، ولكن من أجل أن السكرتير كان يظن أن الرجال كان جاسوساً من قبل الروس في وزارة المستعمرات فلما انتهت مهمته رجع إلي بلاده .
وكان الثالث منهم مات في ( عمارة ) بلد طرف ( بغداد ) علي أثر
( وباء ) اجتاح البلاد هنا علي ما أخبرنا السكرتير بذلك .
أما الرابع فلم يعلم عن مصيره إذ راقبته الوزارة حتى وصوله إلي
( صنعاء ) في ( اليمن ) من بلاد العرب وكانت تقاريره ترسل بانتظام إلي الوزارة فترة سنة ، لكنها انقطعت بعد ذلك ، وكلما حاولت الوزارة الإطلاع علي أحواله لم تحصل علي شئ ، وقد كانت الوزارة تعتبر خسارة أربعة من عشرة كارثة حيث كنا نحسب لكل إنسان حساباً دقيقاً ، فإنا أمة قليلة العدد كبيرة المهام ، نفقد كل إنسان من هذا الطراز كان كارثة عندناً .
مستر همفر كان تريبيه الثالث :
وبعد أن سمع السكرتير أوليات تقاريري ، أرسلنى إلي مؤتمر عقد لأجل الاستماع إلي تقريرنا – نحن الستة – وقد أجتمع حشد كبير من وزارة المستعمرات برئاسة الوزير نفسه لاستماع تقايرنا ، وقدم زملائى تقارير أولية عن المهمه التي أوكلت إليهم ، كما قدمت أنا تقريراً التقطت فيه رؤوس الأقلام ، وأستحسن أعمالي الوزير والسكرتير وبعض الحاضرين ، لكنى لاحظت أني كنت الثالث من حيث جوده العمل ، حيث كان الزميلان ( جورج بلكود ) و ( هنري فانس ) في الدرجتين الأولى والثانية من حيث جودة العمل .
لقد كنت نححت نجاحاً باهراً في تعلم التركية والعربية وتعلم القرآن والشريعة ، لكني لم أحرز نجاحا في تقديم تقرير يدل الوزارة علي مواقع الضعف في الدولة العثمانية ، وبعد ما أنفض المجلس الذي دام ست ساعات ألفت نظري السكرتير إلي هذه النقطة من الضعف . قلت له : إن مهمتي كانت تعلم الغة والشريعة والقرآن ولذا فإني لم أبذل وقتاً كافياً لغير ذلك وسوف أكون عند حسن ظنكم في السفرة القادمة إن أوليتهم ثقتكم بي ، قال السكرتير : لا شك أنك ناجح لكني آمل منك أن تحرز قصب السبق في هذه الحلبة .
مهمة مستر همفر تنحصر فى هدفين
أن تجد نقطة الضعف عند المسلمين ، والتى نتمكن بها من أن ندخل في جسمهم ونبدد أوصالهم ، فإن أساس النجاح علي العدو هو هذا .
أن تكون أنت المباشر لهذا الأمر إذا ما وجدت نقطة الضعف ، فإن قدرت علي المهمة فسوف أطمئن بأنك أنجح العملاء ، وستستحق وسام الوزارة .
توجه مستر همفر إلى العراق :
بقيت في لندن مدة ستة أشهر وتزوجت بابنة عمي ( ماري شواى ) التي كانت تكبرني سنة ، فكان عمري إذا ذاك اثنين وعشرين سنة بينها كان عمرها ثلاثاً وعشرين سنة ، وكانت فتاة متوسطة الذكاء بارعة الجمال وثقافتها عادية ، وقضيت أجمل أيام حياتي معها تلك المدة وحملت منى ، وقد كنت أنتظر الضيف الجديد بفارغ الصبر ، وإذا بالأوامر الصارمة تصدر من الوزارة في أن أتوجه إلي إقليم العراق البلد العربى الذى استعمرته الخلافة منذ زمن طويل .
وقد أسفت لهذه الأوامر فى وقت أنتظر فيه ولدى ، لكن اهتمامى ببلدى وحبي للشهرة بين زملائى كان يفوقان عواطف الزوجية والولد ، ولذا لم أتردد في القبول رغم إلحاح زوجتي أن أرجئ الأمر إلي بعد ولادتها ، ويوم فارقتها بكيت أنا وبكت هي بكاء مراً ، وقالت لي : لا تنقطع عني بإرسال الرسائل كما سأخبرك أنا أيضاً عبر الرسائل بعشنا الذهبى الجديد ، وهذه الكلمة كانت عاصفة علي قلبي حتى أني صممت أن ألغي السفرة ، لكني تملكت عواطفي وودعتها وخرجت إلي الوزارة لأحصل علي الإرشادات الأخيرة .