كانت دهشة في البداية، لكنها تحولت إلى قلق مخيف صباح أمس الأربعاء، لم أصدق أن صحفنا المغربية، الخاصة منها والحزبية منها، ستخطئ معركتها المقدسة الدفاع عن الحق في حرية التعبير والاختلاف في الرأي، وألا تسارع لاستنكار تهديدات المساس بحياة الأشخاص وسلامتهم الجسدية.
لم أصدق بالفعل أن ذلك حدث، ولذلك أعدت تصفح الجرائد واحدة واحدة، وصفحة بصفحة، ومرة أخرى أخرج خاوي الوفاض، ربما كان الحدث الذي يستحق التغطية والمتابعة و تقنيات الماركوتينغ هو أن يكون محمد عبد الوهاب رفيقي قد تعرض للاغتيال من طرف طيور الظلام، أما وقد تم الحجر على حقه في الاجتهاد وتجديد الفكر الديني، وتم قذفه بالعشرات من عبارات السب والشتم ، وكل ما يمس بالكرامة الإنسانية مع التهديد بإزهاق روحه، فإن كل ذلك مجرد اعتداءات عادية تسقط من انشغالات الصحف مع فهم سوريالي لقاعدة في الصحافة تقول: «ليس الخبر أن يعض الكلب رجلا، وإنما الخبر أن يعض الرجل كلبا».
كنا وحدنا في «الأحداث المغربية» الذين قررنا أن نخوض هذه المعركة، وقد اعتبرنا دائما هذا النوع من المواجهات بمثابة معاركنا الخاصة التي لا يجرؤ عليها الكثيرون: أن ننتصر للقيم والمبادئ ولقناعاتنا مهما كانت الانتماءات السياسية والإيديولوجية لأولئك الذين يتعرضون للاضطهاد الفكري. ومحمد عبد الوهاب رفيقي ليس رفيقنا في مشروعنا المجتمعي، وهو لا يتقاسم معنا قيم الحداثة وانتماءنا العلماني، لكننا نراه نموذجا مغربيا متميزا في مراجعة قناعات البدايات، والانتماء لاحقا لمشروع تجديد الفكر الديني، وإحياء مشروع السلفية الوطنية المغربية، لتكون قادرة على مواجهة سلفيات التقتيل والرجعية.
لم يقترف أبو حفص جريمة في حق الشرع، ولا هو قلل من الاحترام الواجب للنص القرآني، كل ما في الأمر أن الرجل عبر عما يراه اجتهادات ضرورية، في المساواة في الإرث، في الحريات الفردية، وفي السؤال القديم الجديد حول ما إن كان الإسلام صالحا لكل زمان ومكان، أم أنه ابن بيئته بكل بساطة وواقعية بعيدة عن المتاجرة بالأصوليات وجعلها أصلا تجاريا لاستقطاب الأتباع واكتساح المقاعد وجني عائدات الدعوة إلى الجريمة الإيديولوجية المنظمة.
كان فقط يفكر بصوت مرتفع وصادق، بل وشجاع أيضا، لكن مخالفيه في الرأي داخل أعشاش الظلام، لم يكونوا قادرين على المجادلة والمحاججة بالرأي، عادوا ليستلوا سيوفهم المقدسة من أغمادها: سلاطة اللسان وسحب الحق في الحياة، ولو كان ذلك بلغة فيها كثير من قلة الذوق وسوء الأدب الذي ينهى عنه الإسلام وكل تعاليم الديانات السماوية.
لكنهم لم يفاجئونا، لا يمكن إلا أن يكونوا كما هم، لا يمكن أن ننتظر منهم أن يتحولوا إلى «باروخ سبينوزا» مغربي يعيد قراءة الدين ليفصل فيه بين الصحيح والمضاف، بين العقدي الأصلي وما أضافته حسابات السياسة واجتهادات الجهل، لم يفاجؤونا ببساطة لأنهم طيور ظلام تختبئ في أعشاشها، مستكينة إلى جهالة القرون الوسطى، لكن أبا حفص جعلنا نراهم من جديد، كاد البعض منهم يخدعنا بالتقيات، وبالصمت، وبقول اللسان ما يضمر القلب، لكن عبد الوهاب رفيقي فجر المصطنع، وكشف المعادن الحقيقية للناس، إنهم ببساطة «متطرفون نائمون» بيننا لا نعرف متى سيحولون فكرهم المتشدد إلى تطرف عنيف.
إن الذين فاجأنا هم صحافة البلد، أن يتعرض مواطن للتهديد بالقتل بسبب أفكاره أمر لا يهم، أن تفتح طابوهات الدين أمام النقاش الفقهي العلمي الرزين والمنفتح معركة لا تستحق أن تخوضها الصحافة، أوليست حرية التعبير والحق في الحياة هما من صميم مقومات الديمقراطية التي تدعي بعض صحفنا التباكي عليها؟.
أذكر أنه مرة قال الفيلسوف فولتير: «قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد لأن أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك»، لكن صحافتنا لديها قراءة أخرى لهذا الرقي الديمقراطي، وهي تعيد تأويلها لتقول: «دافع عن رأيك كما تشاء، ولكني لن أدافع أو أكتب عنك إلا يوم يقتلونك بسب آرائك».
كانت قضية أبي حفض حماما باردا أيقظ كثيرين من أوهام مراجعات الكثير من السلفيين، وكانت أيضا ناقوس خطر يلفت الانتباه لعديد من المتطرفين في النعيم والذين لم يسائلهم أحد منذ شرعوا في تكفير خصومهم يمينا وشمالا فاستحلوا التحريم، لكنها كانت أيضا قضية فضيحة صحفية، كانت ببساطة فضيحة صحافة هربت من أرض معركتها الحيوية: أن تحمي الحق في التعبير والحق في الحياة حتى بالنسبة لأولئك الذين قد تراهم عصاة إيديولوجيين خارج خطها التحريري، وهذا إن كان قد بقي في كثير من صحفنا خط تحريري أصلا.