كدأبه يقدم الأمين العام للأمم المتحدة في شهر أبريل من كل سنة تقاريره السنوية أمام مجلس الأمن حول القضايا الساخنة أو بؤر التوتر في العالم، على غرار ما نلاحظه اليوم وقد قدم الأمين العام الجديد السيد غوتريس تقريره حول قضيتنا الوطنية. وأقل ما يقال عن هذه الوثيقة الأممية أنها كانت على درجة كبيرة من الوضوح في تحديد المسؤوليات عما آل إليه التشنج المريب في المجال الجغرافي المشمول بهذا التقرير. وأن لغة الخطاب التي اعتمدها السيد غوتريس كانت مباشرة من حيث سردها للوقائع. وبحرص شديد منه آل على نفسه أن تكون تلك الأحداث متسلسلة في سياقها الزمني مما جعلها متيسرة للإدراك وبالتالي المساعدة على التقاط وفهم النوايا والمخططات والتمييز بين الطرف المتعاون والطرف المشاكس والمشاغب. وكان من نتائج هذه الاحترافية في قراءة الوقائع أن خرج السيد غوتريس بجملة من الاستنتاجات استطاع أن يحولها بدون عناء إلى ملاحظات وتوصيات حث فيها مجلس الأمن إلى الأخذ بها لمعالجة تلك الأزمة الطارئة وإزالة مسببات التوتر قبل الانطلاق في مفاوضات جادة ومتوازنة، على الأقل هذا ما أوحى بها تقرير السيد الأمين العام.
1 ـ الوقائع ودلالاتها في فرز الصالح عن الطالح:
ما كان للتقرير الأممي أن يستقيم له هذا البنيان المتراص وأن يطل علينا بهذا الإخراج المحكم لولا حنكة ملك كان لها الفضل الكبير في تحديد مجرى الأحداث والتطورات الأخيرة التي واكبت وتحكمت في هذا الصراع. فالخطوات التي أقدم عليها المغرب في مواجهة الخصوم من قبيل الانسحاب الأحادي من مربع الكركرات بعد أن هلل لها الأعداء ظنا منهم على أنها انتصار، تأخروا في فهما على أنها "ضربة معلم" وأنها باتت تحولا مفصليا في حزم وشد المرابط والايقاع بالخصم في مواجهة مفتوحة ومباشرة مع المنتظم الدولي. تلكم هي النظرة الثاقبة لسياسة الحكماء التي تصنع الحدث وتستقرأ النتائج على المدى البعيد، على خلاف سياسة القاصرين أو المحجور عليهم والغير المؤهلين في تفكيرهم لتجاوز حدود اللحظة الماثلة أمامهم.
إذن نقطة الارتكاز في التقرير الأممي انطلقت بالأساس من ذلك الانسحاب الأحادي الذي سارع إليه المغرب فأدت اتباعا إلى إسقاط قطع الدومينو التي كانت بحوزة الخصوم. فالتقرير في مجمله أشاد بالتجاوب الذي أبداه المغرب وأظهره كطرف متعاون، فيما حمل المسؤولية كاملة إلى الطرف الآخر من خلال تعنته ورفضه لنزع فتيل الأزمة رغم النداءات المتكررة التي تعددت على ألسنة المسؤولين الأمميين.
فكرونولوجيا الأحداث كما وردت في تقرير السيد الأمين العام تشير إلى أن قوات المينورسو بعد تدخلها يوم 28 غشت للفصل بين وحدات من الدرك الملكي وقوات البوليساريو للحيلولة دون أية مواجهة عسكرية كانت وشيكة، سارعت قيادة المينورسو في وقت لاحق إلى دعوة الأطراف إلى التراجع والانسحاب من المنطقة العازلة لكي لا يؤثر ذلك على الوضع القائم لهذه المنطقة كما هو متفق عليه في الأمم المتحدة.
المغرب وبتعلميات من الملك أبان عن استعداده للتعاون وتراجعت قواته. بينما البوليساريو كما يشهد بذلك السيد الأمين العام لم ترفض فقط جملة وتفصيلا ذلك النداء، بل زادت في غيها وتحدت النداء الأممي بالتوغل وبسط سيطرتها على المنطقة إلى حدود أرادت أن تضع فيها موطئ قدم على الأطلسي. ولم تكتف بذلك، كما جاء أيضا في التقرير الأممي، بل أن المينورسو عاينت استفزازات لعناصر البوليساريو وهي ترفع أعلام الجمهورية الوهمية في المنطقة العازلة بعد أن أقامت فيها ما يتهيأ لها بنقاط تفتيش معززة بعناصر إضافية من قواتها. وأمام مرأى ومسمع قوات المينورسو، أخذت تلك العناصر تعترض سبيل الشاحنات المغربية المحملة بالبضائع إلى موريتانيا وتنزع عن تلك الشاحنات كل ما له صلة برموز المملكة المغربية. كما تناول تقرير السيد الأمين العام الاعتداءات والتهجمات التي تعرضت لها الشاحنات المغربية وإهانة واستفزاز سائقيها .
على إثر تلك الاستفزازات ومدى التحدي الذي استمرت فيه قيادة البوليساريو، أشار السيد الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره إلى أنه أصدر بلاغا بهذا الخصوص دعا فيه إلى الامتناع عن اعتراض سبيل الشاحنات التي تنشط في تجارة مشروعة منتظمة ومتعارف عليها. وهذا البيان يقر بواقع لا يغير من الوضع القائم ولا يشكل خرقا للاتفاق العسكري الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة بنفسها، على عكس ما تدعيه قيادة البولبساريو التي تريد أن تجعل من تلك التجارة خرقا للاتفاق.
وفي يوم 17 مارس من هذه السنة، كما جاء في التقرير كذلك، خصص السيد الأمين العام لقاء لرئيس الجمهورية الوهمية في نيويورك ليبلغه قلقه من الوضع القائم في الكركرات وليعرب له عن استيائه العميق من عدم تجاوب البوليساريو لدعوته بالتوقف عن تلك الاستفزازات والانسحاب على غرار ما بادر إليه المغرب. والأهم في ذلك اللقاء أن السيد الأمين العام كان جازما بعد أن هز الغشاء الطبلي لمسامع مخاطبه بأنه معني "بإعادة الروح إلى المفاوضات بدينامكية جديدة وبروح جديدة" لكن على أن تعمل الأطراف المعنية على مساعدته من خلال خلق جو ملائم ومشجع، وبعد إنهاء حالة التوتر في المنطقة العازلة بالكركرات. ولعل في ذلك رسالة واضحة لقيادة البوليساريو. فيما أعرب جلالة الملك من جهته في رسالة له إلى الأمين العام والذي أتى على ذكر مقتطفات منها في تقريره بأن "المغرب سيظل منفتحا ومستعدا للتعاطي مع أي حوار للتوصل إلى حل سياسي ونهائي."
وفي سياق آخر، تطرق تقرير السيد الأمين العام إلى الاستحقاق الانتخابي الذي عرفه المغرب يوم 07 اكتوبر 2016 ليعكس بذلك شهادة المينورسو التي أقرت بأن الانتخابات جرت في ظروف عادية، مشيرة إلى عدم تسجيل أية أحداث من قبيل حركة احتجاجية. وهي شهادة ذهبت في اتجاه معاكسة ما كانت تخطط له قيادة البوليساريو من استخدام المينورسو كأداة للتشويش على ذلك الاستحقاق.
2 ـ توصيات التقرير:
بداية، شدد الأمين العام مرة أخرى في الوقائع وفي التوصيات على أهمية استئناف المفاوضات بين الأطراف، وأكد في نفس الوقت على ضرورة تهييء الأجواء من استقرار وأمن واعتبار ذلك حدا أدنى من الشروط لضمان انطلاقة جديدة لمسلسل المفاوضات بين جميع الأطراف.
وبعد أن نوه الأمين العاام في تقريره من جديد بتجاوب المغرب مع أول نداء أممي، لم يتردد في حث مجلس الأمن على الضغط على البوليساريو من أجل الانسحاب من المنطقة العازلة مع التأكيد على أن يتم ذلك بشكل كامل و بدون شروط مسبقة.
وبخصوص عملية التفاوض، اعتمد السيد الأمين العام في تقريره سلسلة من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن بدءا من عام 2007 كمرجعيات يجب الاهتداء بها لتيسير المفاوضات بين الأطراف من أجل التوصل إلى حل سياسي متفق عليه من دون شروط مسبقة وبنية صادقة على ان يكون ذلك التفاوض مبني على أسس واقعية وعلى روح من التوافق يفضي إلى التوصل إلى اتفاق تحدد فيه بالتراضي طبيعة وشكل ممارسة تقرير المصير. ويرى السيد الامين العام أنه يتعين على مجلس الأمن توجيه الدعوة إلى الأطراف كي تتعاون بشكل كامل وتقديم التسهيلات المطلوبة، وخاصة الجزائر التي اعتبرها التقرير طرفا لابد منه في عملية التفاوض.
3 ـ مجلس الأمن مطالب بتحمل مسؤولياته:
واضح أن التقرير الأممي كان بمثابة انتكاسة للخصوم والأعداء. ولكونه كذلك، ذهب هؤلاء في اتجاه مزيد من التصعيد بنية خلق واقع آخر يتجاوز حدود ضلوعهم في الأزمة الراهنة، وبنية خلط الأوراق مراهنين على استفزاز المغرب وجره إلى مواجهة من نوع آخر ينشغل فيها مجلس الأمن الدولي وبالتالي حرق توصيات الأمين العام حتى لا يكون لها صدى أو وقع في النقاش الدائر بالمجلس.
ويتمثل هذا التصعيد في نصب البوليساريو لحواجز جديدة على الطريق الرابطة بين مركزي الحدود في المغرب وموريتانيا بنية إعاقة حركة السير والتحكم في مرور السيارات والشاحنات المتجهة إلى موريتانيا. والغريب يجري ذلك تزامنا مع اجتماعات مجلس الأمن الذي ينكب أعضاؤه في اللحظة على مناقشة توصيات الأمين العام والارتكاز عليها لإصدار قرار في الموضوع.
لاشك إذن أن هذه الاستفزازات خطيرة وتعتبر تحديا لإرادة المنتظم الدولي، كما تعبر عن وجود نية مبيتة تستهدف الأمن والاستقرار في المنطقة. ومادامت النوايا على ما هي عليه وليست بحاجة للاجتهاد للوقوق على حقيقتها، فإن الدبلوماسية المغربية مدعوة في هذه اللحظة إلى مخاطبة أعضاء مجلس الأمن لتحمل مسؤولياتهم تجاه الطرف المخل والمشوش على الجهود التي تبذلها الأمم المتحدة من أجل تمكين مؤسساتها وأطرها العاملة في الإقليم من النهوض بمهامهم في ظروف سليمة وأجواء إيجابية تنأى بتعريض حياتهم إلى مخاطر وينأى المغرب بنفسه عن تحمل تبعاتها. فمجلس الأمن مطالب إذن بتحديد المسؤوليات كما هو مطالب بتحمل المسؤوليات.