سعيد بوخليط.
تشاطر شخصا حديثا، تصغي إليه وهو بصدد مقاربة موضوعات الشأن العام بالمغرب.. ينتقد السياسات المتبعة، وتضاريس الفشل التي كلستها وجعلتها بنيات فاشلة تعوق التقدم والتطور، مراكمة بالتالي ممكنات مجموعة مخاطر تهدد البلد واقعا ثم افتراضا بناء على المعطيات الملموسة، من العنف إلى الجوع، من الجهل إلى ضياع القيم الإنسانية، من العبث إلى انسداد الآفاق، من حرق الآمال ومراكب مرافئ الأمان إلى احتراق أبناء البلد، ثم "حموضية"- بلغة شباب اليوم - اللعبة، وإستراتيجيات التكلاخ الذكية، إلخ.
يواصل السرد على نحو سلس، بخصوص عرض المشهد. بعدها، يتدرج منتقلا من العام نحو الخاص، فيعرج بين طيات ذلك على مشكلة محض شخصية، عاشها فعلا، أو فقط مجرد كيفيات اجتراره ليوميات صعبة حين احتكاكه بالناس ارتباطا دائما بالإطار العام ذاته، مستخلصا النتيجة التالية: المغاربة خَطَارْ، ويستطرد: "المغرب بلد العجائب، ما دمت فيه فلا تستغرب"..
حين تأمل خطابه، فقد انتقل من الدفاع إلى الهجوم، يتحسر بداية على مآل وضعية قومه؛ لكن سرعان ما يخونه التحليل الموضوعي المشبع بالشعور والحس الوطنيين، والانحدار إلى تأويلات تغرف من خطاب المظلومية كما يقال، تستكين بالفصام المرضي ذاته الذي أضحى سلوكا يلازمنا صباحا ومساء، وكأن لسان حال كل واحد منا يقول: أنا بريء دائما والآخر متهم؟ بدوره الآخر يبرئ دائما نفسه ويجعلني متهما؟ لا نعرف حقا ماذا نريد؟ لا نريد إلا حسب ما يخدم المصلحة الشخصية، بالتأكيد كل حسب موقعه؟ قد نريد أو لا نريد تبعا للأهواء والأمزجة والزمان والمكان؟ ثم السؤال الكلاسيكي: هل نريد أصلا أم لا نريد؟
نتفق حقا على أن وضعية البلد دقيقة، في حاجة إلى بناء مجتمعي واضح الرؤى، لا يختص به فرد دون غيره، أو جهة دون أخرى، بل هو مشروع الجميع؛ غير أن التأطير السيكولوجي الجاهز والسهل والمنتهي، ضمن مرجعية جلد الذات القهري، بكوننا أضحينا جحيما لبعضنا البعض. منطق وضع كل البيض في سلة الآخر، ليس بالمطلق صحيحا. بعد كل شيء، نحن قوم مثل باقي أقوام البسيطة تسري علينا نفس الخريطة البيولوجية، خيرا أم شرا..
إن نقاشا من هذا القبيل لن يكون بالتأكيد إلا تكرارا مملا، إذا اكتفى بجرد معطيات المنظومة السياسية التي أضاعت بوصلة التشويق، وأضحت تراوح مكانها. لذلك، لم يعد الواحد ينتظر حصيلة ذات بال، ما دامت المقدمات هي ذاتها، تحضرني حكمة لأينشتاين: الغباء هو تكرار فعل الشيء نفسه عدة مرات وتوقع نتائج مختلفة..
في المقابل، يغدو نقاشا خصبا ومبهجا، إذا اتسم المٌتَدخل بالتواضع واتصف بالنزاهة والتجرد الفكري، فوضع ذاته أمام مِرآة الجميع، متجاوزا سلبية وتيه الجلد المانخولي كما الوضع الأول، كي يتحمل مسؤوليته الشخصية ويشمر على سواعده، مقتنعا تمام الاقتناع بلا جدوى أي إصلاح للبلاد والعباد، سوى بأن يصلح نفسه أولا وأخيرا، وينظف منزله، بحيث يطرح كل مواطن على نفسه، السؤال الوجودي المحرج والمؤرق: ما دوري الخاص بخصوص ما يجري عموما؟ هل التزمت في تعاقد مع نفسي، كي يصير العام امتدادا إيجابيا مني وإلي؟ هل ما أعيشه من قيم خلال خلوتي، عين ما أدعو له علانية؟..
يقال إننا دأبنا في بلدان التخلف، سلوكيا وقبله فكريا، على تحوير الصيغة الأوروبية: فوتت القطار إلى فاتني القطار. الأولى، تظهر الذات واعية تمام الوعي بمصيرها، ماسكة بزمام حاضرها ومستقبلها، تحرك خيوط قدرها كيفما شاءت ومتى شاءت وحيثما شاءت وأينما شاءت، لذا فوتت القطار لأسباب محض إرادية. أما الثانية، فلا تزال مسكينة رهينة ومعطوفة على عطف الآخر أو نأيه.
إن إصلاح الشأن العام وبناء الدول لدى المنظومات الديمقراطية يتأسس جدليا وفق صيغة الذهاب والغياب، من الفرد إلى المؤسسات. والعكس صحيح، ستمثل تلك المؤسسات في نهاية المطاف، النموذج الأمثل الضامن لارتقاء المجتمع والبلد. يشكل أحدهما باستمرار منطلقا ومقصدية للثاني، فالدولة هي المواطن، والأخير هو الدولة، لا فجوة بينهما. بهذا الخصوص، تتواتر تلك الجملة الشهيرة، الجازمة بأنه يكفي المرء فقط إلقاء نظرة خاطفة على نظافة حي واحد من إحياء مدينة واحدة، كي يصيغ نظرة متكاملة بخصوص مدى حضور الشعور بتحمل أعباء الانتساب لذاك الوطن أو انعدامه.
نتذكر جميعا أيام الربيع العربي، كيف تجلت أخلاق الشباب المصري في ميدان التحرير: لا أزبال، لا تحرش، لا عنف، لا إرهاب، مسلم إلى جانب المسيحي…، ففي اللحظة المفصلية لإسقاط الديكتاتور واستعادة الشعب لبلده من قبضة نظام مبارك، أبان المصريون لحظتها عن مستوى التحضر المتأتي من شعور الانتماء الحقيقي والفعلي للمجال العام أي فضاء مصر ككل..
إن أهم خطر يداهم المغرب يكمن في موت الضمير الجمعي وطغيان الأنانيات المريضة وما يدخل في منظومة مختلف أنواع الوصولية والانتهازية والفوارق الشاسعة بين القول والممارسة، حيث ندور في نفس حلقة انتقاد الجميع للجميع صوتيا، ونرمي كليا هذا الآخر المُتَوهم بالمسؤولية، ثم تتحول اللعبة وتتغير مواقع الجلاد والضحية، حسب درجات الاستفادة من الوضع، مثلا: الشعب لا يتوانى عن اتهام النخبة بالانبطاح قصد الارتزاق. الأخيرة لا تتردد في الاختباء وراء جواب: الشعب قاصر ينخره الجهل، بالتالي لا يعرف طريقه جيدا… لكن السؤال الأساس، في الاتجاهين معا: كيف للشعب أن يجعل من نخبة كهاته نخبته؟ وإن وجدت، فماذا فعلت هذه النخبة قاعديا كي تستحق فعلا مقامها ووضعها الرمزي؟
بلا شك، حينما يغيب العمل يكثر الكلام واللغط المجاني، وإن لعبة نقد الآخر ونقد النقد والبكائيات تحايل لغوي للهروب إلى الأمام والتملص من المسؤوليات التاريخية.