كنا قد عقدناً المؤتمرات الكثيرة لنلتمس الحلول الكافية لهذه المشاكل المقلقة ، لكنا في كل مرة لم نجد أمامنا إلا الطري المسدود ، وكانت التقارير التي تأتينا بانتظام عن العملاء والجواسيس مخيبة للآمال ، كما كانت نتائج المؤتمرات كلها صفراً أو تحت الصفر ، لكنا لم نكن ندع المجال لليأس فينا ، حيث عودناً أنفسنا النفس الطويل والصبر اللا متناهى .
وأذكر ذات مر عقدناً مؤتمراً حضره الوزير بشخصة وأكبر القساوسة ، وعدد من الخبراء ، كان عددنا جميعاً عشرين شخصاً ، وطال النقاش أكث من ثلاث ساعات ، وأنتهينا بدون أية نتيجة ، إلا أن القس قال ، لا تنزعجوا ، فإن المسيح لم يصل إلي الحكم إلا بعد ثلاثمائة سنة من الاضطهاد والتشريد والقتل له ولأتباعه ، وعسي أن ينظر إلينا المسيح نظرة من ملكوته فيمنحنا إزالة الكفار عن مراكزهم ولو بعد ثلاثمائة سنة ، فعلينا أن نتسلح بالإيمان الراسخ والصبر الطويل واتخاذ كافة الوسائل والسبل للسيطرة ونشر المسيحية في ربوع المسلمين ولو وصلنا إلي النتيجة بعد قرون ، فإن الآباء يزرعون للأبناء .
وحتى – ذات مرة – عقد في الوزارة مؤتمر حضره ممثلون من كل من بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا ، وكان مؤتمراً في أعلي المستويات ، وكان الحاضرون لفيفاً من الهيئات الدبلوماسية ورجال الدين ، وكان من حسن حظي أن حضرت ذلك المؤتمر لعلاقتى الوطيدة بالوزير ، وعرض المؤتمرون مشاكل المسلمين عرضاً وافياً .
دراسة سبل تمزيق المسلمين وسلخهم عن عقيدتهم :
ذكروا في هذا المؤتمر سبل تمزيق المسلمين وسلخهم عن عقيدتهم وإرجاعهم إلي حظيرة الإيمان كما رجعت أسبانياً إليها بعد قرون من غزو المسلمين البرابرة لها ، لكن النتائج لم تكن بالمستوى المطلوب ، وقد كتبت أنا كل ما دار من نقاش في ذلك المؤتمر في كتابي : ( إلي ملكوت المسيح ).
إنه من الصعب أن تقلع جذور شجرة امتدت إلي شرق الأرض ، وغربها ، لكن الإنسان يجب عليه أن يذلل الصعاب مهما كان الثمن .
المسيحية لم تأت إلا لتنتشر :
كان من أهدافنا أن المسيحية لم تأت إلا لتنتشر ، وقد وعدناً بذلك السيد المسيح نفسه ، أما محمد فقد ساعده ظرف انحطاط العالمين الشرقى والغربي ، وظرف الانحطاط إذا ولي فقد يذهب معه أيضاً ما رافقه من ويلا ، ومن حسن الظن أن الأمر قد أنعكس فقد أنحط المسلمون وارتفعت بلاد المسيح فآن الوقت لأن نطلب الثأر ونسترجع ما فقدناه طيلة قرون ، وها هي دولة قوية عصرية هي بريطانياً العظمى تأخذ بزمام هذه المبادرة المباركة .
الباب الثاني
مستمر همفر مبعوث المخابرات البريطانية لبعض بلاد المسلمين
المبعوثون من وزارة المستعمرات :
أوفدتني وزارة المستعمرات عام ( 1710) إلي كل من مصر ، والعراق ، وطهران ، والحجاز ، والآستانة ، لأجمع المعلومات الكافية التي تعزر سبل تمزيقنا للمسلمين ، ونشر السيطرة علي بلاد الإسلام ، وبعث في نفس الوقت تسعة آخرون من خيرة الموظفين لدي الوزارة ممن تكتمل فيهم الحيوية والنشاط والتحمس لسيطرة الحكومة إلي سائر الأجزاء للإمبراطورية ، وسائرة بلاد المسلمين ، وقد زودتنا الوزارة بالمال الكافي ، والمعلومات اللازمة ، والخرائط الممكنة ، وأسماء الحكام والعلماء ورؤساء القبائل ، ولم أنس كلمة السكرتير حين ودعنا باسم السيد المسيح وقال : إن علي نجاحكم يتوقف مستقبل بلادنا ، فأبدوا ما عندكم من طاقات للنجاح .
مستر همفر مبعوث لدولة الخلافة :
فأنجزت أنا ميمماً وجهة الآستانة – مركز الخلافة الإسلامية وكانت مهمتي مزدوجة ، وحيث كان من المفروض أن أكمل تعلمي للغة التركية – لغة المسلمين هناك – فقد كنت تعلمت شيئاً كثيراً من ثلاث لغات في لندن : اللغة التركية ، ولغة العرب ( لغة القرآن ) واللغة الفلهوية لغة أهل فارس ، لكن تعلم اللغة شئ ، والسيطرة علي اللغة حتى يتمكن الإنسان أن يتكلم مثل لغة أهل البلاد شئ آخر ، فبينما لا يستغرق الأول إلا سنوات قلائل ، يستغرق الأمر الثاني أضعاف ذلك الوقت ، فإن المفروض أن أتعلم اللغة بكافة دقائقها حتى لا تثار حولي شبهة .
ولكنى لم أكن أقلق لهذه الجهة لأن المسلمين عندهم تسامح ورحابة صدر وحسن ظن كما علمهم نبيهم ، فالشبهة عندهم لا تكون كالشبهة عندنا ، ومن طرف آخر فإن حكومة الأتراك لم تكن في المستوي اللائق لكشف الجواسيس والعملاء ، فقد كانت حكومة آخذه في الضعف والهزل مما يؤمن جانبنا .
مستر همفر يدعي الإسلام
وبعد سفرة مضنية وصلت إلي آستانة وسميت نفسي ( محمداً ) وأخذت أحضر المسجد – مكان أجتماع المسلمين لعبادتهم – وراقني النظام والنظافة والطاعة التي وجدتها عندهم ، وقلت في نفسي : لماذا نحارب نحن هؤلاء البشر ؟ ولماذا نعمل من أجل تمزيقهم وسلب نعمتهم ؟ هل أوصاناً المسيح ذلك . لكني رجعت فوراً واستنفرت من هذا التفكير الشيطاني ، وجددت العزم علي أن أشرب إلي آخر الكأس .
وسائل مستر همفر لمارسة نشاطه
1- سعية لتحصيل العلم .
وقد التقيت هناك بعالم طاعن في السن أسمه ( أحمد أفندم ) وكان من طيب النفس ورحابه الصدر وصفاء الضمير وحب الخير ، ما لم أجده في أحسن رجال ديننا ، وكان الشيخ يحاول ليله ونهاره في أن يتشبه بالنبي محمد ، فكان يجعله المثل الأعلي ، وكلما ذكره ماضت عيناه بالدموع ، ومن حسن الحظ أنه لم يسألني – حتى مرة واحدة – علي أصلي ونسبي وإنما كان يخاطبنى ( محمد أفندي ) ويعلمنى ما كنت أسئله ويحنو علي حنوا كبيراً حيث عرف أني ضيف في بلادهم جئت لأن أعمل ولأجل أن أكون في ظل السلطان الذي يمثل النبى محمداً فقد كانت هذه حجتى في البقاء في الآستانة .
وكنت قد قلت للشيخ : إني شاب قد مات أبى وأمى وليس لي أخوة ، وتركوا لي شيئاً من المال ففكرت أن أكتسب وأن أتعلم القرآن والسنة ، فجئت إلي مركز الإسلام لأحصل علي الدين والدنيا ، فرحب بى الشيخ كثيراً وقال لي ما نصه – وقد كتبته بلفظه – إن الواجب أن نحترمك لعدة أسباب .
أ- لأنك مسلم والمسلون أخوة .
ب- ولأنك ضيف وقد قال رسول الله ﴿-;- -;- وآله﴾-;- ( أكرموا الضيف)
ج- ولأنك طالب علم والإسلام يؤكد علي إكرام طالب العالم .
د- ولأنك تريد الكسب وقد ورد نص بأنه ( الكاسب حبيب الله )
وقد أعجبت أنا بهذه الأمور أيما إعجاب ، وقلت في نفسي ياليت كانت المسيحية تعى مثل هذه الحقائق النيرة ، لكني تعجبت كيف أن الإسلام في هذه الرفعة شمله الضعف والأنحاط علي أيدي هؤلاء الحكام المغرورين وهؤلاء العلماء الجهلة بالحياة .
2- تعلم القرآن :
قلت الشيخ : أنى أريد أن أتعلم القرآن المبين ، فرحب الشيخ بالطلب ، وأخذ يعلمني من سورة ( الحمد ) ويفسر لي المعانى ، وقد كنت أجد مشقة في النطق ببعض ألفاظها ، وأحياناً كانت المشقة منتهاها ، وأذكر أني لم أتعلم النطق بجملة : ( وعلي أمم ممن معك ) إلا بعد تكرارها عشرات المرات في ظروف أسبوع ، حيث قال لي الشيخ: اللازم عليك الإدغام حتى تتولد ثمانى ميمات . وكيفما كان فقد قرأت القرآن عنده في مدة سنتين كاملتين ومن أوله إلي آخره ، وكان إذا أراد تعليمى توضأ وضوء الصلاة وأمرني بالتوضؤ كما كان هو وأنا نجلس إلي جهة القبلة .
3-ممارسة الوضوء والصلاة :
والجدير بالذكر أن أذكر أن ( الوضوء ) عند المسلمين جملة من الأغسال ، فأولاً يغسلون الوجه ، وثانياً اليد اليمنى من الأصابع إلي المرفق وثالثاً اليد اليسري من الأصابع إلي المرفق ورابعا يمسحون الرأس وخلف الأذنين والرقبة ، وخامساً يغسلون الرجلين .
ويقولون الأفضل أن يدير الشخص الماء في فمه ، وأن يسحب الماء إلي الأعلي في أنفه قبل البدء في الوضوء .
4- استعمال السواك :
وقد كنت أنزعج أنزعاجا كبيراً من ( السواك ) وهي عودة يدخلونها في أفواههم لأجل تنظيف الأسنان قبل الوضوء ، فقد كنت أعتقد أن هذه العودة تضر الأسنان والفم ، وكانت أحياناً تجرح الفم ويخرج الدم منه ، لكني كنت مجبوراً أن أفعل ذلك لأنها عندهم سنة مؤكدة أمر بها نبيهم محمد وهمم يذكرون لها فضائل كثيرة .
5- حياته اليومية في الآستانة :
لقد كنت أيام إقامتى فى الآستانة أنام عند خادم المسجد لقاء ما أعطيه من المال وكان إنسانا عصبى المزاج وأسمه ( مروان أفندي ) وهو أسم أحد أصحاب الرسول محمد ، وكان الخادم يعتز بهذا الاسم المبارك ، وكان يقول لي : إن رزقت ولداً سمه ( مروان ) لأنه من كبار الشخصيات المجاهدين في الإسلام .