المغرب أكثر من استثناء، لا بلد آخر يشبهه ولا هو يشبه بلدا آخر. المغرب هو المغرب. ليس مجرد استثناء، بل هو استثناء استثنائي وفوق الاستثناء، في محيطه الإقليمي والجهوي، وفي العالم كاملا. باختصار: “يحيرو فيه الطبا”، كما يقول المثل الدارج في وصف الحالات المعقدة المستعصية على التشخيص، والتي لا ينفع لفهمها علم ولا منطق ولا نظريات.
يتعب علماء السياسة اجتهادا في وضع النظريات والتأصيل لها وتطويرها، والدفاع عنها، وإثبات صحتها، لكنها ما إن تصل إلينا حتى تتهاوى وتتكسر على عتبتنا، فيصير أصحابها أضحوكة بعدما كانوا مراجع في التفسير والتحليل والتوقع يؤخد بكلامهم على محمل اليقين، أو على محمل الجد على الأقل.
السياسة عند العالم كله هي “فن الممكن”، إلا عندنا تحولت إلى “دفن” مستمر للممكن، وتبرير لغير الممكن ليكون ممكنا. أما الفاعلون عندنا فرجال سياسة من طينة خاصة، متشابهون حد التطابق أحيانا، ومختلفون حد التناقض أحيانا أخرى، وفي أحيان كثيرة لا يصير بين شبههم واختلافهم فرق. أغلبهم بلا لون ولا طعم… وحدها الرائحة موجودة!
السياسة، مع توابعها وتوابلها، عند العالم كله، تدبير وتخطيط، رسم لمعالم المستقبل، تنافس على خدمة الشأن العام، وضع للرؤى والتصورات، إلا عندنا فهي زوابع تحجب الرؤية عنا جميعا، وكلما احتدت كلما استحال النظر.
المفروض أن تكون عكس ذلك. أن تكون دليلنا إلى المستقبل، أن تنير الطريق، أن تبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أن تخدمنا لا أن نخدمها.
المفروض أن تكون السياسة وسيلة لا غاية تنتهي بهزيمة طرف أو انتصار طرف آخر في جولة وانتظار جولة أخرى.
السياسة تحاصرنا في شبه دائرة، فنعتقد أن هذا الفضاء الصغير المغلق وحده المعني بالانتخابات والبرلمان والمجالس والجهات ومؤسسات الحكامة والحكومة والأغلبية والمعارضة، وأن الصور في الصحف تكفي ليتحقق المبتغى.
وهم الحضور في المركز مسيطر على الجميع، وربما نحن من يريد ذلك. هنا الرباط… هذا هو الهوس الجماعي والعقدة التي تسكن الأغلبية. العاصمة وضواحيها هي الأصل، والباقي تفاصيل في خدمة الأصل، فيما الواقع أن التفاصيل هي التي تصنع هذا الأصل، بل تبرر وجود هذا الأصل في الأصل.
تتحرك الاحتجاجات وتتعالى الأصوات في مناطق كثيرة. في هذه المدينة يحترق مظلوم، وفي مدينة أخرى يحتج محتاج، وفي قرية نائية ينتظر منكوب، وفِي دوار بعيد مسيرة صغيرة… تتوالى المشاهد وتتكرر حتى صارت مألوفة، وأهل السياسة مشغولون بأشياء أخرى، كأنما السياسة ليست لتدبير هذا كله، كأنما السياسة لخدمة هموم أخرى بعيدة عن هموم هذا الشعب الذي ينتظر. شعب في واد ونخبة في واد، ولا يلتقيان إلا مرة كل خمس سنوات وسرعان ما يحدث الفراق في انتظار لقاء .جديد ووعد جديد
السياسة أكبر من مجرد انتخابات وأرقام ومقاعد وأحزاب وأغلبية ومعارضة وحكومة وجدال… السياسة رغيف خبز للشعب أيضا.
الكرش ملي كتشبع كتقول للراس.. دير السياسة. جربوا هذه الوصفة، ولو من باب السياسة.
#مجرد_تدوينة