يمكنك أن تقول للموريتانيين ما شئت دون أن تثير الناس إلا إذا تعلق الأمر بمسألة واحدة هي الشعر، فالشعر في هذا المنكب البرزخي هو المادة التي يستهلكها مواطنو بلد المليون شاعر كما يستهلكون الخبز، وهو المجال الإبداعي الذي يلي عند الموريتانيين قداسة الذكر الحكيم.
لم يعتذر الرئيس عن قوله في مؤتمره الصحافي الأخير بأن «الذي أفسد التعليم في موريتانيا هو توجه غالبية الطلاب للشعر وللعلوم الإنسانية بدل الشعب العلمية»، وإن كان مستشاره الشاعر الكبير محمد ولد الطالب نافح عنه وأكد اعتزازه بكونه «شاعر بلاطه».
أما الشعراء الغاضبون فقد لجأوا للشعر، فهو سلاحهم الأوحد حيث تعاقبوا على نظم معلقة شعرية مطولة قاربت المئتي بيت مخصصة لهجاء الرئيس، وقد بدأها أبرز شعراء موريتانيا محمد ولد إدوم بقوله «يَنْضو رئيسُ بلادِ الشِّعرِ سَاتِرَها… وكانَتْ بِنُورِ الحَرْفِ تَأتَلِقُ».
وعلى هذا المنوال نسج شعراء آخرون في الروي نفسه وعلى القافية نفسها مقطوعات تهجو الرئيس وتؤكد اعتزاز موريتانيا بشعرها العربي الفصيح الذي لم يشهد قط انحطاطًا.
وفي حوارات حول معركة الرئيس والشعراء، أكد الشاعر محمد ولد إدوم حامل لواء مقارعة الرئيس «أن ولد عبد العزيز سخر من الشعر للمرة الثالثة، وأن غرضه ليس ما حاول تأكيده المدافعون عنه، والدليل أن توجه الطلاب الموريتانيين للمجالات العلمية لم يفدهم حيث أن هناك أكثر من 300 مهندس خريج لم يتمكنوا اليوم من الحصول على وظيفة».
ودخل في معمعان هذه المعركة كذلك «متنبي موريتانيا» الشاعر الكبير ناجي محمد الإمام، الذي أكد في تدوينة مطولة أمس «أنه كما تعتبر البلاد مصدراً رئيساً لخامات الحديد وخامات الجلود وخامات الذهب والنفط والنحاس فمن الإنصاف أن ننصف الكتاب والشعراء والفنانين ونوفيهم حقهم من الاحترام لأنهم أصحاب المنتج المصنَّع المكرَّر الوحيد الذي تُصدره بلادنا إلى العالم وبه تُعْرَف وتُعَرَّفُ، كما تُعرف مصر بالسينما وفرنسا بالنبيذ والعراق بالمقام واليمن بالدان». وقال «أما أن نتحدث عن غزو المريخ على ضوء شمعة مستوردة ونعيب على الشعراء التغني بنور القمر فتلك حالة أخرى».
«وعلى طريقتنا العارمة»، يضيف ناجي محمد الإمام، «لم نتوصل إلى مستوى النقاش الهادئ الرصين الذي تبرز من خلاله أفكار ومدارس ورؤى تسهم في وضع تصور جامع لتنظيم الخلاف وتبويب الاختلاف».
وتابع تحليله للأزمة قائلاً «لعل الجديد في الأمر أن قضية «الشعر» وموقف الحاكم منه لم تكن مطروحة يوماً في أي بلد في الدنيا، قبل هذه «النازلة»، لأنه ليس من المألوف أو المقبول أن يحدد مسؤولٌ موقفه من اختصاص أو فن أو مهنة أو حرفة، سلْباً، لأنه معنيٌّ، حتماً، برعايتها وليس بهوايتها، وإذا قُدِّرَ لهُ أن يتخذ موقفاً غير ذلك، فإن الرد عليه يجب أن يتم بالأساليب العصرية الراقية الحازمة التي تناسب سمو الحرف ومكانة سدنته صُنّاع الحكمة وحراس عتباتها المقدسة».
وزاد «وعندما يتعلق الأمر بالشعر، وفي عرينه الأول، حيث العلاقة الخاصة الملتبسة بين الكلمة المقفاة وبين الناس كل الناس في هذه الأرض التي لا تُنبتُ مُنتَجًا قابلاً للتصدير سواه، يكون كل طرف قد حدد حكمه ونفذه، لدرجة أن النقاش يضحى بيزنطياً، لا تُرجى منه فائدة، ومع هذا يتواصل حاداً كأسنة الرماح في وسائل الاتصال ووسائط التواصل الاجتماعي».
وحول من هو الشاعر عند ناس المنكب (موريتانيا)، يقول ناجي « الناس كل الناس عندنا يريدون الشاعر إما إلـَهًا أو شيطانًا، لأنه عندهم يراوح بين مفهوميْ الشاعر القوال (التروبادور في القرون الأوروبية)، والوسيط المدَّاح الذمَّام شاعر القبيلة الذي ينافح عنها بالحق، أحياناً، وبالباطل أغلب الأحايين؛ وبين «الشاعر الحكيم» الذي يضع القواعد الملزمة لأخلاقيات الناس ويسجل مآثر الخالدين بالثناء العطر ويبني أهراماً من المبادئ الجليلة هي فهرست ديوان العرب».
وخلص ناجي إلى القول بأن «محاكمة المبدع ينبغي أن تتم على أساس مدى التزامه باختياراته الأصلية وفي ضوء استمرارية مواقفه المعبرة عنها، واتساقه معها، فذلك معيار تجذر القناعة ومسبار الصلابة في الرأي والاستقامة المبدئية عنده، والعيب كل العيب في ممالأة الحاكم أو مسايرة المعارضة دون قناعة وثبات عليها».
هذا ولم تسلم هذه المعركة من التسييس في الأوساط الإعلامية المحلية، حيث أكدت وكالة أنباء «الشرق» أن «الإخوان لا يجدون فرصة للنيل من نظام ولد عبد العزيز إلا واستغلوها، وهذا ما جعل البعض، تضيف الوكالة، يعتقد أن القصيدة التي نظمها الشاعر الموريتاني محمد ولد إدوم الموجود حالياً في قطر تم حشو البنادق فيها من طرف الإخوان المسيطرين على ذلك البلد وعلى الإعلام فيه»… وتبقى المعركة مستمرة بين رئيس بلد المليون شاعر وشعرائه.