طيلة السنوات الخمس الماضية التي تولى فيها الأستاذ عبد الاله بنكيران رئاسة الحكومة المغربية ، تعرض فيها الرجل و أغلب وزرائه لجملة من الانتقادات التي يمكن تصنيفها ضمن ما يعرف في المواجهات المعتادة في الأنظمة الديمقراطية بين الفرقاء السياسيين وبالأخص بين الأغلبية الحكومية و الأقلية المعارضة بالمعارك الصغيرة أو الجانبية التي تصرف الرأي العام و تلهيه عن الاهتمام بما هو أساسي و مهم ، ألا وهوصب الاهتمام على مضمون برنامج عمل الحكومة و ما وعدت به عند تنصيبها و لم تحققه ، و أوجه التقصير و العجز فيما لم تستطيع القيام به و الأسباب الكامنة وراء ذلك ، مما يعني ربط المسؤولية بالمحاسبة حسب ما ورد في الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور، فهل كانت المعارضة المغربية بأطيافها المختلفة و ألوانها المتعددة المنابع و التوجهات في المستوى الذي يؤهلها للاضطلاع بهذه المحاسبة التي ينيطها بها الدستور ، و هل كان لوسائل الاعلام دور في هذا النكوص الملاحظ على أدائها بهذا الخصوص ؟
ان ما مر فات و الماضي لا يعود كما يقال ، و لكن كيفما كان الأمر علينا أن نأخذ العبرة من كل ما فات و مضى حتى لا نكرر السقوط على وجوهنا و تظل المصالح الوطنية تدور في الحلقة المفرغة ، فالمعارك الصغيرة كانت أهم ما ميز السجالات السياسية التي دارت في الساحة الوطنية أثناء الفترة السابقة لدرجة جعلتها تغطي على المشاكل الكبرى التي تتخبط فيها قطاعات حيوية كالتعليم و الصحة و القضاء و الوظيفة العمومية و غيرها ، و هو ما دفع الفساد للتغلغل أكثر ليتسيد الموقف و ينأى بنفسه عن أية محاسبة مزهوا بمقولة عفا الله عما سلف ، " هي فوضى " مع الاعتذار لمخرج الفيلم المصري الذي اختزل الوضع الذي ألت اليه مصر في ذات العنوان ، و هو ما قد ينطبق على المغرب بسبب اختلاق معارك صغيرة من قبيل جهل رئيس الحكومة بعقد ربطة عنقه و الوزير الذي يتناول أكلة البيصارة في مطعم شعبي و نزوات الكوبلات و اختلاء الفقيه الداعية بالفقيهة الداعية و حق ابنة مسؤول في التوظيف من عدمه ، يضاف الى ذلك الزلات اللسانية المتعددة لبنكيران التي حولته الى " كلون " بامتياز في نظر هؤلاء المتفرغين لتصيد أخطائه للتشهير به بغية اطفاء جذوة شعبيته و طمس نجوميته التي ملأت الفراغ الذي خلفه الزعماء التاريخيين لهذه البلاد بانتقالهم الى دار البقاء .
التركيز على الصغير و الجانبي في مواجهة حكومة بنكيران و ترك الأساسي و المهم من باب تقييم السياسات العمومية و محاسبة رئيس الحكومة و أعضائها على ما لم يقوموا به من أعمال وعدوا الناخبين و عموم المواطنين على القيام بها ، هذا هو الذي أسقط أغلب السياسيين المغاربة في وحل التمييع المتعمد للعمل السياسي الذي أصبح يخوض فيه كل من هب و دب حتى اختلط الحابل بالنابل و صرنا نسمع جعجعة و لا نرى طحينا كما قال يوما الشاعر الأندلسي ابن هانئ ، و من الغريب ألا تقدم حكومة بنكيران حصيلة عملها للرأي العام عند انتهاء ولايتها و لا يهتم أحد بذلك لأن الاهتمام بما قامت به الحكومة احيل على الهامش و قوم السياسة انصرفوا نحو التدافع فيما بينهم للظفر بمقاعد وزارية لا أقل و لا أكثر ، و لا يستثنى هنا دور السلطة الرابعة المتمثلة في الاعلام الذي ابتلي هو الآخر ببعض الدخلاء عليه الذين لوحظ استعمالهم بسهولة من طرف بعض السياسيين الراغبين في تلميع صورتهم و اخفاء حقيقتهم و خدمة أجندتهم و تصفية حساباتهم مع خصومهم ، بينما رسالة الصحفي أسمى من ذلك و أشرف من أن يغاص بها في الحضيض ، اذ يجب أن تطبعها أخلاقيات المهنة و الحياد الايجابي و نقل الخبر بكل أمانة و التعليق عليه بكل نزاهة .
و الآن و قد تشكلت حكومة الدكتور سعد الدين العثماني ، هل سيستمرالتمييع نفسه للحياة السياسية الذي يكون من نتائجه – كما تعودنا على ذلك - النفور من السياسة و العزوف عن المشاركة في الانتخابات و السخط العام و عدم الرضى و انعدام الثقة في كل الشعارات و الوعود التي تقدمها الحكومات في اليوم الأول لتقلدها مهامها ؟ و هل يترفع السياسي المغربي عن العبث الصبياني و اصطياد المنافع الشخصية ليرتقي الى مستوى الممارسة السياسية المسؤولة التي تحركها الروح الوطنية و الغيرة على مصالح و مستقبل البلد ؟ ، لا سيما أن الملفات التي تستحث الاستعجال لبحثها و حل اشكالاتها و لا تقبل مزيدا من الـتأجيل قد تراكمت و في مقدمتها ملف البطالة المتفشية وسط الشباب عامة و خصوصا منهم حملة الشهادات ، الى جانب ملفات أخرى لا تقل أهمية كتلك التي تخص وضعية الأساتذة المتدربين و الممرضين المجازين و وضعية المستشفيات و المراكز الصحية الصورية وتعميم التغطية الصحية و آفة الرشوة التي عمت مختلف القطاعات و المحسوبية و التلاعب في مباريات التوظيف ومراجعة قانون اصلاح وضعية أنظمة التقاعد و وضعية المتقاعدين وغيرها من الملفات العالقة في الرفوف التي هي الأساس و ما دونها هو الصغير و الجانبي كما أشرنا الى ذلك .
عبد الغني القاسمي.