المشهد العقدي العام
يلاحظ الباحث وجود فسيفساء متعددة الألوان ؛ باتت تؤثث المشهد الديني العام في المغرب ، زاد تنوعها في العشر سنوات الأخيرة حيث أصبحنا ؛ وعبر مواقع إلكترونية ووسائل إعلامية أخرى ؛ نألف كتابات تعريفية وتوصيفية يشهر أصحابها دياناتهم علنا ، ويمعن بعضهم في استعمال معاوله لزعزعة أسس الذي آواه بالأمس القريب ، كما أن هناك تنسيقيات وجمعيات بالمسيحيين المغاربة ؛ طفت على السطح وبرزت إلى الوجود تطالب "بحقوقها" في ممارسة شعائرها الدينية إلى جانب مجموعات أخرى ذات انتماءات دينية أخرى غير مكشوفة . فماذا وراء هذا الانتماء أو بالأحرى الانسلاخ الديني ، وما الذي عجل بظهوره وبهذه الوجاهة ؟؟
أرقام ذات دلالة
ليس هناك إحصاء رسمي بالانتماء الديني ، فالإحصائيات التي أشرفت عليها المندوبية السامية للتخطيط ؛ لم يرد في استماراتها أية إشارة بهذا الخصوص . لكن هناك تقديرات علمية منظمة ترد في بعض التقارير الدولية ، كتقارير وزارة الخارجية الأمريكية ، وبعض الهيئات والمنظمات غير الحكومية من بينها مجمع الكنائس الإنجيلية أو الشرقية ؛ والمجمع العالمي للكنائس ؛ ومنظمة التعاون الإسلامي ؛ ومؤسسات الشيعة في العالم ؛ والمركز البهائي العالمي ؛ والوكالة اليهودية أو المركز اليهودي الخدماتي العالمي .. وفيما يلي بعض الأرقام التقديرية لبعض نسب الانتماءات الدياناتية التي تسوقها هذه التقارير:
4000 إلى 4500 يهودي ؛ منتشرين بصفة خاصة في الدار البيضاء ؛5000 إلى 8000 مسيحي مغربي ؛ معظمهم أمازيغ ؛ على أن هناك تنسيقية للمسيحيين المغاربة تتحدث عن وجود 45,000 مغربي متنصر ؛ 500 إلى 700 شخص منتم للبهائية ؛8000 إلى 10,000 شخص منتم للشيعة ؛ معظمهم ينحدر من لبنان وسوريا والعراق ، مع أقلية من المغاربة الذين اعتنقوا المذهب الشيعي . وليس من اهتمامنا ؛ في هذا المقال ؛ إثارة الدين الرسمي للدولة وهو الإسلام الذي عليه معظم المغاربة أبا عن جد.
يلاحظ في المغرب أن الدولة تضمن لليهود والمسيحيين الأجانب على السواء حريتهم في ممارسة شعائرهم الدينية دون قيود ؛ في حين نجد أن البهائيين والمسيحيين المغاربة لا يتوفرون على أماكن لممارسة شعائرهم بحكم أن الدولة لا تعترف " بخروج هؤلاء من الدين الإسلامي السني على مذهب الإمام مالك والمعتمد في المغرب " ...
خلفيات الانتماء الديني
التصريح بالانتماء ؛ ومنذ عقود ؛ لم يكن بهذه الحدة والتهافت ؛ كما نلاحظه اليوم في قطاعات الشباب خاصة ، بل كانت العقيدة الإسلامية المالكية المذهب هي السائدة بين المغاربة والمتوارثة أبا عن جد ، بل كان التمسك بها يظل قويا حتى ولو انتقل هذا المواطن المغربي إلى بيئة ثقافية جديدة ؛ تعتمد النصرانية أو اليهودية .. كملة لها ، كما كان ملحوظا بين الجاليات المغربية بأوروبا منذ أوائل الستينيات من القرن الماضي إلى نهايته . لكن ظروفا اقتصادية وسياسة إعلامية محضة عملت على تمرد الشاب المغربي على ديانة أجداده ، وارتمائه في أحضان ديانات أخرى ، ويظل دوما هذا الانتماء محل تساؤل عميق ؛ تتناسل حوله خيوط معقدة . هل هو نتيجة للبحث في ذات الديانة ؟ أو هو مجرد إملاء فرضته وضعيته السوسيواقتصادية .. أو لنقل هو انتماء وراءه عواصف سياسية ؟؟
ما زال الملاحظ يتذكر أن ظاهرة التنصير بين المغاربة بلغت أوجها منذ عقدين من الزمن ؛ حاولت السلطات آنئذ تطويقها ومحاصرة أدواتها ؛ والتي كان من بينها إغراءات بضمان الشغل والتسفير وشعار " انهض أيها المغرب " .. كأبرز الدوافع لِمُروقِ عديد من الشباب ، ومن ثم قطعه مع ديانته "الأم" إسميا على الأقل .. على أن هناك قلة قليلة من الشباب المتعلم ؛ ترى في التحاقها بهذه الملة أو تلك مكاسب آنية صرفة و "وحماية لها من عوائل الزمان" وهو ما لاحظناه في أعقاب (الربيع العربي) ونزوح مئات الآلاف إلى بلدان أوروبية ، فكانت الأولوية ـ في الولوج إلى حماية هذه الدول ـ تمنح "لمعتنقي" المسيحية ، لكن سرعان ما تبين لهذه الدول المحتضنة أن مسيحية هؤلاء غير ذات جدوى باعتبار انتفائها من مجموعة من الضوابط الأخلاقية والحضارية ، وأنها في عمقها "عقيدة مزورة" .
كما أن هناك طفرة سياسية ؛ شهدت انسلاخ العديد من الشباب المغاربة عن عقيدتهم الأم ، كرد فعل عفوي وانفعالي بالأساس جراء السهام والتوصيفات التي باتت لصيقة بالإسلام كالإرهاب والتطرف والظلامية …
إلى هذا هناك أشخاص لعبوا دور "الوسيط" في نشر تعاليم مذاهب أخرى والتعريف بها ولو في الخفاء كظاهرة الشيعي والبهائي التي تلقفها بعضهم لحاجيات تظل مجهولة ، ولو أن منافع مادية تبقى واردة بقوة من ضمن دوافعها الرئيسة، وهذا ما حمل ؛ على الأرجح ؛ السلطات المغربية على عدم السماح للمغاربة المسيحيين بممارسة شعائرهم الدينية داخل الكنائس والمعابد الخاصة بالأجانب .
التبشير غير المباشر
هناك أقلام؛ اعتنق أصحابها المسيحية بالأمس القريب ؛ ظهرت في الآونة الأخيرة تنتقي مواضيعها لجلد الإسلام ومحاولة التشكيك في نصوصه (من الكتاب والسنة) وزعزعة الإيمان بها ، وهو تبشير يتجاوز نظيره النصراني إلى درجة التغليط والتسفيه ؛ ينتشر أصحابه في بعض المواقع والمدونات والمنتديات الإلكترونية المنفتحة على كل الآراء والمواقف ، وإن كان القانون الجنائي المغربي في فصله 200 يعاقب " كل من استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى". فحرية التدين مكفولة للجميع ، لكن دون استعماله في رمي الآخر.
بطاقة الهوية والتنصيص على العقيدة
سبق لبعض الدول العربية أن تبنت هذا النظام في بطاقات هوية مواطنيها بين مسلمين ومسيحيين وباقي الديانات الأخرى ، لكن حدث وفي أعقاب ثورات الربيع العربي، واشتداد التطرف الديني وبروز التنظيمات الإسلامية المتطرفة ، أن عدلت عن هذا النظام وحجبت هوية المواطن العقدية ما إن كان مسيحيا أو يهوديا أو قبطيا .. أو مسلما لدواعي أمنية من جهة والحد من الحساسية العقدية بين المواطنين داخل المجتمع الواحد ، من جهة ثانية .
خلاصة
ونخلص إلى القول بأن "التنصير" وبهذه المواصفات، يتنافى مطلقا مع التعاليم المسيحية نفسها والتي تحترم الديانات الأخرى ، وليس واردا ـ في تعاليمها ولا طقوسها وأدبياتها ـ رمي الآخر أو محاولة تسفيه ديانة أخرى، كما تفعل بعض الأقلام المغربية التي تنصرت حديثا وتكتب خلف شعار "حرية التعبير" مرتدية عباءتها الجديدة هذه كأداة قذرة للطعن في معتقدات الآخرين، وتقزيمها في أعين أصحابها أو بالأحرى هي أيادي خفية بالوكالة لهيئات ومنظمات تشتغل على نطاق دولي واسع لضرب صفاء وينابيع العقيدة الإسلامية كما صار مألوفا بين الجماعات التكفيرية مع فارق بسيط ؛ تلك جماعة "إسلامية" تكفيرية ، وهذه جماعة "مسيحية" تكفيرية. ولو أن الإثنين معا يجمعهما قاسم مشترك هو التطرف.