هل نحتاج إلى تغيير الدستور، أم تغيير الطبقات السياسية؟ أم نحتاج إلى تغيرهما معا؟
كل الأنظار موجهة إلى الحكومة التي تم إعلانها يوم الأربعاء، وإن كان ما يهم، بعد الذي وقع، هو ما ستتفق عليه مكونات هذه الحكومة كحد أدنى برنامجي؛ وهو أول اختبار للطبيعة اللامتكافئة واللامتجانسة لنتائج الديمقراطية التمثيلية، التي قررت الانصهار في ما بينها من دون تقارب في المفاهيم، وتقاطع في المشترك السياسي.
ليس من حاجة إلى تقديم أدلة على مقومات الأخلاق السياسية، وما تنتجه في التجارب التي تحترم نفسها من رؤى وانصهار الأولويات بعضها ببعض، احتراما للناخب المغربي ولنبل السياسة؛ لكن كيف لنا أن ننتظر مشهدا سياسيا جديدا، انطلاقا من استمرار هيمنة رأس المال على السلطة؟ أي قطب سياسي جديد سيسطر على الدولة بعدما سيطر على السلطة؟ وأي تحولات أساسية ستطرأ على واقعنا الاجتماعي المهدد بالمزيد من بالهشاشة والاستبعاد على أكثر من صعيد؟.
فمن الواضح جدا أن الوضع السياسي المغربي بات يزداد غموضا كل يوم، ولم يعد الرأي العام يمتلك القدرة على التتبع لفهم ما يجري على الساحة السياسية. وهذه سابقة استثنائية، تأتي في زمن صناعة المجهول وتأثيث الضباب، وسيادة الظواهر الصوتية السالبة للحريات.
إن صبر المغاربة قد طال، وأي اختيار معاكس للطموحات والتطلعات ستكون انعكاساته وخيمة جدا. هناك معضلات ملحة للمعالجة، إنها حقيقية وليست اعتباطية، لكونها شكلت تاريخيا مصدرا لـ"نكوص" و"انفجار" البنيات السياسية الحزبية المتواترة، والتي لم تحقق "وحدتها التاريخية" إلا مع السلطة الحاكمة والطبقات الحاكمة في الدولة.
لقد بات من الصعب تعريف هذه المحطة التاريخية من عمرنا السياسي، وبات من الصعب التكهن بما ينتظر المغرب والمغاربة!
فبالأمس القريب، قيل عن "الأصالة والمعاصرة" ما لم يقل في حق تاريخ الأحزاب السياسية منذ نشأتها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ إذ تعرض لمحاكمة شارك فيها الجميع، من دون توفير شروط المحاكمة العادلة. واليوم؟ ها هي "الكتلة التاريخية"، بأحزابها العتيدة وبمشتقاتها، تتحالف مع "العدالة والتنمية"، وتقبل ارتداء "معطف التدفئة"، خدمة للسلطة السياسية السائدة وبيئاتها المدينة لمصادرها التاريخية.
كنا نعتقد أن المشكل يكمن في أركان الدستور، وفي عدم القدرة على تنزيله وتفعيله وترميمه، لكن الأمر يبدو أعمق من ذلك. إنها محاولة جديدة لإنكار تاريخ الشعب المغربي وتغريبه، والتهكم عليه، بل والانتقام من مطالبه العادلة ومن حقوقه الوطنية والكونية في المساواة والعدالة الاجتماعية والحرية.
إن من طبائع قيام المؤسسات، الوجود، والتفاعل، والانتماء، غير أن ما يحدث الآن في المغرب يظهر أن منطق القبيلة والعشيرة لازال سائدا بدل مفهوم الشعب. كما أن التفاعل الذي كان من المنتظر مع قيم وقواعد المؤسسات السياسية تم استبداله بفهم مقاولاتي للمؤسسات الحزبية التي كان من المفروض فيها أن تكون سندا لضرورة تجسيد وتفاعل القيم مع المجتمع ومكوناته. وأخيرا، كنا ننتظر تجسيد مبدأ الانتماء إلى الوطن وليس إلى الأفراد والجماعات السياسة التي اختارت التطبيع مع المقاولة الاقتصادية المتوحشة، لتصبح مقاولة سياسية هجينة.
لقد ظلت السياسة في بلدنا "شخصانية"، وها هي اليوم تصبح "مقاولاتية"، يحكمها منطق الربح والخسارة في العلاقة مع الصفقات. وفي ظل اصطدام "المقاولة الدينية" ونظيراتها بعقبات منعتها من تنفيذ كامل لمشروعها النكوصي، تبرز الآن "مقاولات سياسية" أكثر ارتباطا بالسلطة، لتعبيد مصالح ريعية جديدة، واحتواء ما تبقى من الفساد والانتفاع من المال العام.
إن الأمر يزداد عبثية، عندما تغيب عنا بوصلة فهم طبيعة الطبقات الاجتماعية، وما تشكله من فوارق بين رواتبها وامتيازاتها الضخمة، وبين أدائها التشريعي والسياسي والثقافي، ويبدو أن نصف هذه الطبقات الاجتماعية لا تعرف نفسها، ولا تعي ماهيتها. فأي حديث عن مشاريع مجتمعية (صحية، تعليمية، ضريبية، سكنية، اقتصادية، صناعية، تجارية، مهنية، ثقافية، و..)، أمام هذا الدمار السياسي؟.
إلى هذا كله، تجب إضافة التعديات على المؤسسات السياسية التي تبقى ملك الشعب، وإفلاس احتيالي لـ"المقاولات السياسية" والأجهزة التي تغطي على وجودها النفعي بصفقات تبييض الشرعية التاريخية والدينية والوطنية واليسارية، وتهريب حق الشعب المغربي في الكرامة والتنمية والانعتاق.
لذا تتوجب اليقظة والحذر، وخروج النخبة المغربية المحترمة عن صمتها، بعيدا عن حسابات الكراسي التي يعززها ميل القيادات المتنفذة لاحتكار السلطة والمعرفة والثقافة وقطع الطريق على البدائل، لإقرار التداول والتجدد الديمقراطي، انطلاقا من الفصل بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية، وفصل حقيقي بين السلط، وفق معايير تراعي قدرة الشعب المغربي على تحمل تكلفة حراكه ورجاته الاجتماعية بتبصر واتزان.