اندثرت [عصبة الأمم] في الثلاثينيات من القرن العشرين، بعدما هجرها [موسُّوليني] إثر إدانة [عصبة الأمم] لاحتلاله [لابيسيني] أي [إثيوبيا] اليوم؛ ثم طلّقها اليابانيون بعدما أدانت احتلالهم لـ[مانشوريا] في الصين؛ وهكذا ذابت هذه المنظمة كقطعة ثلج تحت قيض حارق، فكانت عصبةً فاشلة لم تُحرّرْ بلدًا، ولم تَدْرَأْ حربًا، وإنما كانت بمثابة ضريح يتباكى فيه الضعفاء والمظلومون، أي كانت مكانًا للتفريغ والراحة النفسية ليس إلا.. لكنْ بعد اختفاء هذه المنظمة، دعا وزير خارجية بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية [السّيرْ أنطوني إيدَن] في خطاب له في 29 ماي 1941 والمعروف بخطاب [بمانْشَتْماوس] دعا إلى إنشاء جامعة عربية، وقد تكفّل بإنجاز هذا المشروع [النّحاس باشا] الذي يعلم الجميع ارتباطَه مع الاستعمار الفرنسي كما يقول بذلك [الدكتور المهدي المنجرة] في كتابه [الحرب الحضارية الأولى]، صفحة 91؛ وبذلك كانت الجامعة العربية هي أقدم جامعة على الإطلاق، لكنها برهنت عبر تاريخها أنها ازدادت ميتة للأسف الشديد..
ظلت هذه الجامعة مخترقة عبر تاريخها البائس، ويتحكّم فيها زمرة من السياسيين، وأداة لفضح ما يعتقده، أو ما يقرره القادة العرب في جلساتهم المغلقة فيما العدو يعرف كل ما دار من حوار، أو ملاسنات، أو اتهامات؛ وبذلك تكون مؤتمراتها مضيعةً للوقت، وفرصة للكذب، وأداة لتبذير أموال الشعوب؛ رغم ما تحاط به مؤتمراتها من هالة مضلّلة.. في سنة (1966) عُقِد مؤتمرٌ للجامعة العربية، وكان محور المناقشات قضيةَ فلسطين، وكيفية التعامل مع إسرائيل.. وبعد انقضاء الجلسة المغلقة، اتّصل الزعيم اليوغوسلافي [الماريشال بروزتيتو] بالرئيس المصري [جمال عبد الناصر] ليعطيه رأيَه الشخصي في ما تمخّضت عنه الجلسة؛ فاندهش [جمال] وسأل [تيتو] عن الطريقة التي عرف بها ما دار خلال الحوار؛ فأخبره الرئيس اليوغوسلافي بأنه عرف ذلك عن طريق السفير الأمريكي في [بلغراد] وحتى إسرائيل تعرف ذلك؛ جاء هذا في كتاب [حرب أكتوبر] للفريق سعد الدين الشادلي؛ وفي كتاب [المداد أسود أسود أسود] (للنشاشيبي)، ونِعْمَ الجامعة العربية هي؛ أي والله!
لكنْ هل لهذه الجامعة إنجاز تاريخي تنفرد به؟ الجواب: نعم؛ هناك.. فإذا كان المؤرخون يعتبرون أن حملة [بارباروسة] التي قرّرها [هتلر] ضد روسيا سنة (1941) كانت أفظع خطإ في القرن العشرين، فإن الجامعة العربية قد ارتكبت أفدح خطإ سنة (1990) بتزكية العدوان الثلاثيني على العراق بعد فشلها في إيجاد حل عربي لأزمة عربية؛ فصارت مع فتاوى فقهاء حشروا أنفسهم في السياسة بواسطة الدين، وهكذا فقد أصدر (الشيخ عبد العزيز بن باز) فتوى تجيز الاستعانة بغير المسلمين للدفاع عن المقدسات؛ وتلاه (شيخ الأزهر جاد الحق) بفتوى مماثلة، وهي فتاوى منسجمة تماما مع توجّهات بعض الأنظمة، فسارت الجامعة العربية مع هذه الفتاوى الدينية، والتوجهات السياسية؛ ومعلوم أن مقر الجامعة سنة (1990) كان في تونس، وكان أمينها العام [الشاذلي لقليبي] بعد معاهدة [كامب دايفيد]، وفي 24 ساعة رُحِّل المقر إلى القاهرة، وبذلك سَهُل التحكم في الجامعة، واتخذت قرارَ الاستعانة بالجيوش الأجنبية، وكان ذلك ثاني أكبر خطإ في القرن العشرين بعد خطإ [بارباروسة] سنة (1941)، الذي زكاه البابا [بايوس 02]، تماما كما زكّى فقهاء الضلال العدوان الثلاثيني على العراق سنة (1990)، ومن رجال الدين من أجاز، ومنهم مَن عارض، وأمر بالجهاد مثل [بنلادن]؛ وبسبب ذلك الجهاد مُزِّقت الأمّة، وشُرِّد الشعب العربي، ودُمِّر عمرانُه، وقُطِّعت أوصالُه، وكان لهذه الجامعة نصيبٌ من المسؤولية.
ويوم الأربعاء 29 مارس 2017، عُقِد مؤتمرٌ عربي في عمّان بالأردن، والأمّة العربية لا ترجو منه خيرا، والقضية الفلسطينية لا تنتظر منه حلا.. فأي مصداقية لأمة ممزقة، ولجامعة دلّلتْ على أنها ميتة، ولا نرى منها إلا هيكلا عظميا بلا دم، وبلا لحم، وبلا روح؟ فالضفة الغربية ضاقت بالمستوطنات الإسرائيلية؛ وتحت المسجد الأقصى الحفرياتُ متواصلةٌ، وانهيارُه وارد في أية لحظة، في وقت تنقسم فيه أرض فلسطين بين سلطة في الضفة، وحكومة (حماس) في غزة، في وقت انشغلت فيه أمة العرب بإرهاب [داعش والنصرة]، إلى جانب فصائل أخرى، وقُسِّمت بلدان عربية إلى ما يشبه كياناتٍ مستقبلية في العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، بالإضافة إلى تهديدات ومخاطر تتهدّد بلدانًا مغاربية، تماما كما هو مخطط له منذ عشرات السنين، والمسلسل انطلق سنة (1990)، ولن ينتهي إلا ببلوغ مراميه، وتحقيق أهدافه؛ والجامعة فشلت حتى في أيام أقل خطورة، وفي زمان أقلّ وعورة؛ فهل تفلح اليوم، وهي ميتة؟ الجواب: كلاّ! فالأموال التي تُصرف على قبور الأموات، فالأحياء أولى بها، وكذلك قُلْ في حق هذه الجامعة الميتة..
صاحب المقال : فارس محمد