أحسن سعد الدين العثماني حين جنح إلى الصمت منذ تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة بدل عبد الإله ابن كيران، فالصمت، إن لم يكن حكمة في الأوقات كلها، فإن خسائره، إن كانت له خسائر فعلا، أقل فداحة من الخسائر التي يخلفها الإفراط في الكلام.
منذ غادر القصر الملكي في الدار البيضاء إثر الاستقبال الملكي والتعيين والتكليف، يتعرض الرجل لحملة سلخ بشعة وقاسية، من طرف أصدقاء حزبه، قبل الخصوم. ورغم ذلك، لم يتخل عن مبدأ الاستعانة بالكتمان لتشكيل الحكومة، مفضلا تصريحات صحافية معدودة، موزونة ودقيقة، تخلف أمامه ووراءه، وعلى يمينه وعلى يساره، وفوقه وتحته، زوابع من التأويلات والتأويلات المضادة، والتسريبات والتسريبات المضادة، وحملات من قراءة الكف والطالع والتنجيم والتخمين حول هندسة الحكومة وأسماء الوزراء، و”أسراب” مما يصنف في خالة الكواليس.
تحولت الحكاية إلى ما يشبه لعبة حظ، تبدو في الأصل مسلية ومغرية، لكنها تتحول، لفرط ممارستها والإقبال عليها، إلى إدمان ممزوج بكثير من تصفية الحسابات المغلفة بالموضوعية، أو بموضوعية محشوة بالكثير من الحسابات.
العثماني، إلى حدود اليوم، صابر، ومفروض فيه أن يكون قادرا على الصبر والتحمل أكثر، فقد اختار أن يكون في الواجهة، وما يحدث معه، مهما كان قاسيا، ليس غير قدر يسير من “لزوم الشغل” الجديد. زد على ذلك أن الملفات التي سيجدها على مكتبه، في مبنى رئاسة الحكومة، ساخنة وعويصة، لا تكفيها النية، وإنما يلزمها الفعل، والفعل في العمل الحكومي أبلغ من النية، فلكل رئيس حكومة، أو وزير، ما فعل وليس ما نوى.
طبعا العثماني أسوأ حظا من سلفه في رئاسة الحكومة، لأن ابن كيران “زف” إلى المنصب على “عمارية” الربيع العربي، كما يقول جل المراقبين، وقد أحسن استثمار الأجواء إياها لمراوغة “ما يطلبه المواطنون”، وسيلته في ذلك “العين بصيرة واليد قصيرة”، أما العثماني فلا يتقن الكلام كثيرا، وليس مستثمرا ولا فنانا في الخطابة، ولا هو رجل “شوو” مثلما كان سلفه.
وبما أنه لن يكون قادرا على توفير الفرجة، وخلق شروط “ملهاة جماعية” جديدة، سيكون مطالبا بالفعل والتفاعل والتجاوب مع الانتظارات الكثيرة، وعلى هذا المستوى لن يرحمه أحد، ولن يقبل منه الأعذار أحد، لا حزبه ولا من صوت عليه ولا من عاداه ولا من قاطع، فالجميع في انتظار نوعية العلاجات التي سيصفها الطاقم الوزاري للدكتور العثماني.
هذا هو النقاش المغيب منذ شهور، وقد حلت محله هواية “اجترار” الوجبات السريعة، وعادة العزف على الوتر السهل في الآلة السياسية، وهي أن تقول، بكل اليقينية والبساطة الممكنتين، “هناك أشياء ليست على ما يرام وهناك جهات مسؤولة عنها، وهذا مخططها لفعل كذا وكذا”.
موجة بناء سهل للمجهول، في زمن صارت فيه الجرأة “المعلبة” غير مكلفة، ولفرط ترديد هذه النغمة يخيل إلى المرء أن الوطن محاط بجماعة أشرار تتربص بهذا الشعب، وتحضر لمؤامرة كبيرة ضده، وأن أقلية من الأخيار نذرت نفسها لتحذيرنا من هذا الخطر، مدعية ما يشبه “النبوة الديمقراطية” في غير عهد النبوة.
ظهر البنكيرانيون أكثر من ابن كيران، والبيجيديون أكثر من البيجيدي، والديمقراطيون أكثر من الديمقراطية، والوطنيون أكثر من الوطن، والحالمون أكثر من الحلم. والواقع أن البعض ممتعض من العثماني ليس لأنه “انبطاحي” كما يصفه، ولكن فقط لأنه لن يكون صالحا للمساهمة في هذا “الكورال” المعارض.
هناك فريق من “البنادرية” ممن يروق له تسخين الطرح، خوفا من شيء ما أو خوفا على شيء ما، أو هما معا.
رضوان الرمضاني
#مجرد_تدوينة