كل مجتمع كائنا ما كان، إلا ويحاول الاهتداء إلى الحلول الصحيحة لمشاكله، وتنفيذها في واقعه المحدد زمانا ومكانا؛ ويفشل في تحقيق ذلك بقدر ما يجهل ذلك الحل الموضوعي.. إذا كان الواقع الاجتماعي محدّدا تحديدا موضوعيا، فإن الحل الصحيح لأي مشكلة اجتماعية محدّد موضوعيا كذلك.. هذه المشكلات التي يواجهها كل مجتمع معيّن إلا لها حلول معينة لا تصلح لمجتمع آخر، وإن تشابهت تلك المشكلات ظاهريا، وتلك حقيقة موضوعية بمعنى أنه لا يمكن فهمها إلا في ضوء الواقع الاجتماعي الذي أسهم في إثارتها، ولا تجدي نفعا أيةُ حلول مستوردة، أو تم تقليد مجتمع آخر في تنفيذها، أو أملاها بنكٌ دولي أو مؤسسة نقدية على الآخذين بناصية الأمور في هذا البلد أو ذاك؛ وهذا هو المنهج الخاطئ الذي يسير عليه سياسيونا الأميون في مجال التسيير والتحليل، والتطوير للأسف الشديد، فنسقط في ما يسمى [الصراع الاجتماعي]، فيكون هؤلاء الجهلة السياسيون، وغياب الخبراء المحللين، وخلُو الساحة من الفلاسفة المتسائلين، كل ذلك يكون هو السبب في هذا الصراع الاجتماعي، فيصبح الناس عاجزين عن معرفة حقيقة مشاكلهم، وحلولها الموضوعية الصحيحة؛ فيكون تخلُّفهم واقعا يثير مشكلة اجتماعية مصدرُها تناقُض كامنٌ فيهم، بين واقع عجْزهم عن معرفة الحقيقة، وإرادتهم معرفتها؛ فيحيلون المشكلة إلى سياسيين، ومتحزّبين، لا يختلفون عنهم من حيث الجهل بحقائق المشاكل، وبحلولها الصحيحة بسبب [الثقافة اللفظية الفارغة] التي يعتمدها هؤلاء الجهلة السياسيون، وهؤلاء الأميون المتحزّبون، للأسف الشديد..
هذا [الصراع الاجتماعي] الخطير، وهو ما تعيشه بلادنا يوميا، ناتج عن حلول متهافتة، ينفّذها سياسيون أميون، وهذا [الصراع] معيق [للتطور]؛ فيفرضون حلولهم لهذه المشكلات الاجتماعية بواسطة مشاريع، أو مراسيم قوانين، يصوت عليها برلمان به عوام، جُمِعوا من أوب، ولُقّطوا من كل صوب، فيحاولون مثلا حل مشكلة عجْز الخزينة بالاقتطاعات من الأجور، وبإلغاء صندوق المقاصّة، وبخصْم ثلث تعويضات المتقاعدين، وبرفع ضرائب الكادحين، وقسْ على ذلك؛ وهذا هو الأفق الضيق الذي يصل إليه تفكيرُهم الجامد، فتصبح هذه القوانين لا تمثّل الإرادة الشعبية، ولا تكون حلولا جذرية على المدى البعيد؛ وبعد أقل من سنة، تعجز الخزينة ثانية، فيعتمدون الحلول نفْسَها من خلال القانون المالي، وهكذا دواليك.. فالمغرب حقّق وفرة وفائضا ماليا، وازدهارا في الخمس سنوات الأولى من السبعينيات، ومن ثمّة وإلى الآن، لم يحقق نسبة نمو جيدة، بل إن ظهور الأحزاب كان متزامنا تماما مع الضائقة المالية المزمنة التي أنتجت صراعا اجتماعيا حادّا؛ بل تزايدت ديونُ البلاد.. فهذه القوانين التي برع فيها [بنكيران] وجوقتُه أصبحت تعتبر عدوانا على الشعب، فصار يطالب بالتغيير، وبإسقاط هذه القوانين، ويصرخ بصاحبها: [اِرْحَلْ]، لأن القوانين الشرعية هي التي تكون منسجمة مع إرادة الشعب، لا مناقضة لها في البلدان الديموقراطية؛ ألم يقلْ [جون لوك] إن الحكومة هي حارسة ليلية لحقوق المواطنين؟
فلماذا لا تُحْترم إرادةُ الشعب، ولا تُوقَّر حقوقُه والحالة هذه، رغم شنشنات، وزنزنات، وتوهيم الصور الكالحة، حيث تبدو مشرقة كذبا في التلفزة، وفي بعض وسائل الإعلام الحزبية أو المؤسساتية؟ السبب هو طغيان [الاستبداد الديموقراطي]، حيث مليون مصوّت مدجَّن، أو لأسباب عشائرية أو عقائدية أو ثأرية، صوّتوا لحزب فاز بالرتبة الأولى في بلد تعداد سكّانه 34 مليون نسمة؛ فصار حزب الأقلية، والمرتبة الأولى، يتحكّم باسم ديموقراطية الأقلّية الاستبدادية في شعب بأسره؛ وحتى الأحزاب التي كان يُرجى خيرُها لتلعب دور المعارضة القوية، خنعت، وسارت وراء مصالحها الضيقة، واستحال زعماؤها وأعضاؤها إلى رِقّ، وعبيد، وكائنات بيعت في سوق الأحزاب المعروضة للبيع لمن أراد أن يشتري من أمثال [بنكيران]، وقد اقتنى منها ما يحتاجه، وهو ما يريد تكراره الآن، لكنه أخفق، حيث دخل السوق مُشْترٍ آخر قوي بماله، وموارده، وسماسرته، مما يجعل تغيُّر الواقع المغربي إلى الأفضل أمرًا مستبعدا، خصوصا وأسياد ما يسمى الآن (البلوكاج) كانوا هم خَدَم، وحشم [بنكيران]، ومنهم من كان سيّافه، يقطع الأعناق والأرزاق تنفيذا لمشاريع قوانين حكومة الأربعين.. لقد تحدّثنا عن الأُمّيين المتحزّبين، والجهلاء السياسيين، ولا أدل على ذلك، هو تولّي الأمّيين زعامة أحزاب، واستحال السياسيون المثقفون الجهلاء إلى مجرد أتباع، وإلى أصحاب الثقافة اللفظية الفارغة، والقاسم المشترك بينهم على اختلاف قبائلهم الحزبية المتصارعة، والمتباغضة، هو وحدة الهدف، ووحدة اللغة المعتمدة؛ وهذه الأحزاب هي الأصل في مشاكل البلاد الاقتصادية، والاجتماعية؛ وهي السبب في التذمر الاجتماعي، ونمو المشاكل، وتفشي الثقافة اللفظية الفارغة، والاستبداد الديموقراطي، وإذا طرحتَ السؤال: كيف نغير واقعنا؟ لكان الجواب حتما هو: كنْس الأوثان السياسية والظلامية من حياتنا لأنها هي التي تمثل حاجزا أمام الخبراء، والأكفاء، والمبدعين كما يقول أحد الفلاسفة المعاصرين..
صاحب المقال : فارس محمد