محمد أكديد*
-2-
المعتزلة وإشكالية خلق القرآن
لقد كان موقف المعتزلة في هذه المسألة واضحا، وكانت وجهة نظرهم تتلخص في كون ما سوى الله مخلوق، انطلاقا من حرصهم على التنزيه المطلق لله تعالى وانسجاما مع أصل التوحيد لديهم، فهم يرون أن القرآن الكريم هو كلام الله عز وجل، مخلوق وليس بقديم، وأن وصفه بالقدم فيه إثبات أن مع الله تعالى قديمًا آخر، على اعتبار أن الله هو الوحيد القديم الأزلي، ولم يكن معه أحد قبل بدء الخليقة. وفي ذلك قوله تعالى: "وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ" (سورة الشعراء-5) فمحدث هنا يعني جديد ولم يسبق له وجود قبل إنزاله بواسطة الوحي على النبي محمد (ص)، والإحداث في لغة العرب تأتي أيضا بمعنى الخلق.
وقد قالوا بأن المسلمين الذين يعتقدون أن القرآن الكريم هو كلام الله الأزلي، وليس مخلوقًا من مخلوقات الله لا يختلفون كثيرًا عن المسيحيين، الذين يقولون إن المسيح هو كلمة الله المنبثقة من الأب منذ الأزل، وذلك مما لا يتفق مع تصورهم للتوحيد الذي يعد حجر الأساس في العقيدة الإسلامية. لكن أهل السنة أساؤوا فهم دوافعهم العميقة، فاتهموهم بالتعطيل، وهو أنهم ينكرون كلام الله تعالى وصفاته عموما، ونعتوهم لأجل ذلك بالكفر..
لذلك سوف تأخذ المسألة طابعاً سياسياً في عهد المأمون الذي تبنى الإعتزال، وكان قد تأدب على يحيى بن المبارك اليزيدي وهو من شيوخ المعتزلة، كما اتصل بثمامة بن أشرس، وبشر المريسي، وأببو الهديل العلاف، وأحمد بن دواد الذي جعله وزيرا له وقد كان وراء محنة خلق القرآن. يقول ابن السبكي: "وكان معظما عند المأمون أمير المؤمنين يقبل شفاعته ويصغي إلى كلامه، وأخباره في هذا كثيرة، فدس ابن أبي دواد له القول بخلق القرآن وحسنه عنده"1، وبذلك تم جعل القول بخلق القرآن عقيدة رسمية للدولة، ليتم بعد ذلك تتبع المعارضين لهذه العقيدة الجديدة بالحبس والجلد وقطع الأرزاق. وقد كان المأمون يتمثل في ذلك تطبيق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب الرؤية الإعتزالية، وقد ورد في أحد كتبه أن هؤلاء –يقصد من كان يقول بقدم القرآن- يذهبون مذهب النصارى في عيسى حيث ادعوا أن عيسى غير مخلوق لأنه كلمة الله.
وقد عمد أيضا إلى امتحان الكثير من الفقهاء في هذه المحنة، فمنهم من أقر عن اقتناع أو عن تقية، ومنهم من أصر على رأيه. ومن أشهر هؤلاء أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح الذي مات في محنته. وقد توقف أحمد بن حنبل في الإجابة تحرجا عن الخوض في أمور لم يتكلم عنها الرسول (ص) ولا الصحابة، فما زاد على قوله أن القرآن كلام الله، وهو أمر بديهي حتى عند المعتزلة، "فهم يؤمنون بأن القرآن كلام الله تعالى ووحيه..أنزله على نبيه ليكون علما ودالا على نبوته2". فالخلاف لم يكن على ذلك بل على قدم القرآن، وقد غالى الحنابلة بعد أحمد بن حنبل تعصبا حتى نسبوا إليه القول بقدم القرآن3.
وهكذا اختلطت الأمور على كلا الطرفين (المعتزلة وأهل الحيث) ولم يحاول طرف منهما أن يخلص إلى فهم موقف الطرف الآخر، وهذا ما فطن إليه الشهرستاني حين قرر أن الأطراف المتنازعة في حكم عقلي يجب أن تحدد أولا ماهية الشيء المتنازع حوله، أي ماذا يعني بالضبط، فعسى أن يزول النزاع حين يكتشف كل طرف أنه يتحدث عن معنى لم يدر في ذهن الطرف الآخر، حيث ضرب الشهرستاني مثالا حول "قضية خلق القرآن"، فالقائلون بخلق القرآن أرادوا به الكلمات والأصوات، والقائلون بعدم خلقه أرادوا به معنى آخر هو صفة الكلام القديمة القائمة بالله عز وجل، وهكذا "فلم يتوارد بالتنازع في الخلق على معنى واحد". أي أن كلا منهما يتكلم عن الخلق من وجهة نظره. إن الشهرستاني قد لمس بذلك موضع الداء و أجاد في التشخيص كل الإجادة، ولو أدرك المعتزلة وأهل السنة المتقدمون ذلك المعنى إدراكا بينا لتصافح الفريقان وانجلى العداء..
من اجتهادات المعتزلة
لقد تجاوز بعض فقهاء المعتزلة ومتكلميهم الكثير من مجتهدي العصر في الكثير من القضايا التي استفزت العقل قديما وحديثا، وشكلت منفذا للمشككين والمتربصين للطعن بسهامهم في منهج الإسلام. ومن أبرز متكلميهم الذين تجاوزت شهرتهم لعصور والآفاق "إبراهيم بن سيّار النظّام" (140-210ه)، وهو أستاذ الجاحظ وأحد أكبر مفكري المعتزلة. وقد كان النظام غزير الإنتاج لكن للأسف أتلف أهل الحديث كل مؤلفاته4.
يقول عنه أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام: "وقد كان المعتزلة بعده عيال عليه"، ويقول تلميذه الجاحظ واصفًا إياه: "الأوائل يقولون: في كل ألف سنة رجل لا نظير له! فإن كان ذلك صحيحًا فهو أبو إسحق النظّام"، أمّا المستشرق هورتن فيقول "النظّام أعظم مفكري زمانه تأثيرًا بين أهل الإسلام، وهو في الوقت نفسه أول من يمثل الأفكار اليونانية تمثيلًا واضحًا."
وينسب إلى النظام التأسيس لمنهج الشكّ قبل ديكارت بقرون، حيث يقول: "الشاكّ أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قط، حتى كان قبله شك، ولم ينتقل أحد عن اعتقاد إلى اعتقاد غيره، حتى يكون بينهما حال الشك". وكذا منهج التجربة قبل استخدام المنهج التجريبي خلال الفترة الحديثة، ومن ظريف تجاربه، نذكر قيامه بسقي بعض الحيوانات خمرا لمعرفة أثره عليها، حيث سجّل ملاحظاته ليكتشف أن الظبي كان أكثر الحيوانات تأثرًا بالخمر!
ومما تمخّض عن منهجه في الشك والتجربة، أن كانت له أفكارًا رائدة، سبق بها كثيرًا من العلماء والمفكرين5، حيث سبق "لافوازيه" في حفظ المادة، فيقول مثلا: "إن نار المصباح لم تأكل شيئًا من الدهن ولم تشربه، وأن النار لا تأكل ولا تشرب ولكن الدهن ينقص على قدر ما يخرج منه من الدخان والنار الكامنين، اللذين كانا فيه".
وفي تفسيره لدورة المياه يقول: "ثم تعود تلك الأمواه (المياه) سيولًا تطلب الحدور (الحدور: مكان ينحدر فيه، المنحدر)، وتطلب القرار، وتجري في أعماق الأرض، حتى تصير إلى ذلك الهواء، فليس يضيع من الماء شيء، ولا يبطل منه شيء، والأعيان قائمة، وكأنه منجنون (الدولاب التي يسقى عليها) غرف من بحر وصبّ في جدول يفيض إلى ذلك النهر"، وعن الغلاف الغازي والضغط الجوي يقول: "لأمر ما، حصر الهواء في جوف هذا الفلك، ولا بد لكل محصور من أن يكون تقلبه وضغطه على قدر الحصار، وكذلك الماء إذا اختنق"6.
وعن الصوت يقول: "الكلام جسم لطيف منبعث من المتكلم، ويقرع أجزاء الهواء، فيتموج الهواء بحركته، ويتشكل بشكله، ثم يقرع العصب المفروش في الأذن، فيتشكل العصب بشكله، ثم يصل الخيال، فيعرض على الفكر العقلي، فيفهم"، وعن الطعوم والروائح يقول: "أما الطعوم والروائح وما إليها فهي أجسام لطيفة" 7وهو ما نعرفه اليوم من أنها أجسام مادية أي جزيئات.
كما سبق النظام فلاسفة العقد الإجتماعي في التأصيل للنظام السياسي للدولة، حيث يقول: "الكلام في طرق الإمامة وقد اختلف فيه .. وعند المعتزلة أنه العقد والاختيار"8.
أما طريقته في تفسير القرآن فهي تقوم على أصول تتضح فيها الروح الفلسفية لديه، إذ كان يتحرى في تأويله المعنى الذي تدل عليه الألفاظ بحسب عادة العرب في تعبيرهم، ويحرص على تبيين معاني القرآن وما فيها من أحكام ودلالة عقلية منطقية، كما كان ينهى أصحابه عن التكلف والجري وراء الغريب من التأويل.
وهكذا فتح المعتزلة أمام العقل الإسلامي آفاقا رحبة للتفكير بمنطق العصر، وواجهوا كل محاولات الجمود والإسفاف بالعقل باسم الدين، بمنطق راجح وجرأة نادرة سبقوا بها معاصريهم من مختلف المذاهب والفرق. وعرفت الحضارة الإسلامية في عصور رفعتهم أزهى فتراتها قبل أن تتصدع مكانتهم في الدولة بعد صعود المتوكل العباسي وانتصاره لأهل الحديث في قضية خلق القرآن.
أفول شمس المعتزلة
أصبح الاعتزال المذهب الرسمي للدولة كما رأينا في عهد المأمون، ولما جاء المعتصم استمر على نفس النهج رغم انه لم يكن على نفس الدرجة من ذكاء ونباهة المأمون، ثم جاء الواثق فخفف من حدة الملاحقات التي طالت كل من كان يقول بخلاف رأي المعتزلة في خلق القرآن إلى أن جاء التوكل فرفع الاضطهاد عن خصوم المعتزلة من أهل الحديث وقربهم، وأخرج إمامهم آنذاك أحمد بن حنبل من سجنه وأراد استصفاءه، لكن أحمد كان يفر من مخالطة السلطان فلم يسايره في خطته، خاصة وأن المتوكل قد تمادى في إجراءاته التعسفية حتى أنه أمر بهدم قبر الإمام الحسين (ع) حتى لا يكون محجا للشيعة وقد كان معظمهم على رأي المعتزلة وعاشوا معهم نفس المحنة.
وهكذا أقال المتوكل رجال الدولة من المعتزلة وكتب بذلك إلى الأمصار، وقتل قاضي القضاة في مصر "أبي الليث. وقد أورث انقلاب المتوكل على المعتزلة الدولة سلسلة من الانقلابات، وأصبح المذهب خارج سياق الصراع، لينتقل من السياسة إلى الأيديولوجيا، فتعرض المعتزلة للقتل والسجن من قبل السلطة وأهل الحديث وأحرقت كتبهم وحوربت أفكارهم ووصفوا بالزندقة والكفر، وقد كان من أبرز أهداف المتوكل من هذه السياسة كسب رضا الجمهور الأعظم من المسلمين، لتأييد سلطانه وتثبيت دعائم ملكه بتأييد الشعب لقراراته التي خلصتهم من الامتحان في أمر لا تبلغه أفهامهم. وفي هذا يتحمل المعتزلة جزءا من المسؤولية، إذ يرى الدكتور أحمد أمين أن المعتزلة قد أخطأوا خطأين:
الأول: هو إرادتهم إشراك العامة في مسائل علم الكلام، وهو علم دقيق تاهت فيه عقول الخاصة، إنما هو للفلاسفة وأمثالهم لا للعامة وأشباههم.
والثاني: أنهم حملوا الحكومة على التدخل بسلطانها في هذه المسألة، فكأنهم ارادوا أن يجعلوا مجالسهم للجدل والمناظرة مجمعا كمجمع القساوسة يقررون فيه ما يشاؤون ثم يرغمون الناس على القول بما يقررون9..
لقد كان لنكبة المعتزلة أبلغ الأثر في تراجع العقل مقابل هيمنة النص الذي أصبح مقدسا، وذلك بمختلف أشكاله (حديثا وتفسيرا ثم موقفا لفقيه أو فتوى لمتنطع). وقد ساد الإعتقاد بعدهم بعجز العقل وقصوره عن إدراك خبايا النصوص!! فأصبح الحديث وحي ثان يليه القياس ثم الإجماع، وانشغل أهل الحديث في بحث الأسانيد وهمشوا المتون التي خالفت في الكثير من الأحيان نصوص القرآن!!
ولو استمر العرب والمسلمون على منهج المعتزلة العقلي في الشك والتجربة والبحث والتحقق لنسبت إليهم نهضة العالم الحديث. يقول أحمد أمين: "كان للمعتزلة منهج خاص أشبه ما يكون بمنهج من يسميهم الفرنج العقليين، عمادهم: الشك أولًا والتجربة ثانيًا، والحكم أخيرًا".
وحول نظريتهم في الحرية يقول: "وقالت المعتزلة بحرية الإرادة وغلوا فيها أمام قوم سلبوا الإنسان إرادته حتى جعلوه كالريشة في مهب الريح". أما عن توحيد المعتزلة "كما كانت نظرتهم في توحيد الله نظرة في غاية السموّ والرفعة، فطبّقوا قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) أبدع تطبيق، وفصّلوه خير تفصيل، وحاربوا الأنظار الوضعيّة من مثل أنظار الّذين جعلوا الله تعالى جسمًا."
وهكذا يحق للمسلمين الإفتخار بجزء مشرق من تاريخهم العقلاني ولو أنه لم يعمر طويلا. ورغم مجهودات السلطات التقليدية و أغلب فقهاء النص في تشويه هذا التراث والتعتيم عليه، فإنه قد وصلنا منه جزء كاف للتأثير على كثير من مفكرينا المعاصرين بعد أن وقفوا على لمسات لافتة من آثار المعتزلة في أفكار ومناهج النهضة الحديثة التي شكلت منعطفا حاسما في تاريخ الحضارة الإنسانية.
هوامش:
1- طبقات الشافعية، ج1، ص206، وانظر البداية والنهاية، ج10، ص319.
2- شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، ص 528.
3- محمد أبو زهرة: ابن حنبل، ص140.
4- ومنها "كتاب الجزء، كتاب العالم، كتاب الحركة، كتاب التوحيد".
5- من كتاب الحيوان للجاحظ، ج 5.
6- المصدر السابق.
7- انظر كتاب الملل والنحل للشهرستاني، ج1.
8- شرح الأصول الخمسة 754.
9- ضحى الإسلام، ج3، ص191-192.
*باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية