يقدم الداعون لمقاطعة الانتخابات التشريعية ليوم 25 نونبر المقبل عدة مبررات لتسويغ موقفهم، أهمها غياب شروط النزاهة والديمقراطية لإجراء تلك الانتخابات، لكنهم لا يقدمون وصفة متكاملة لمدافعة الفساد، فالضغط بالنزول للشارع مع حركة 20 فبراير، وإن كان أحد لا ينكر دوره الفعال في إجراء عدة إصلاحات، أهمها ما جاء من مضامين خطاب 9 مارس وما تلاه من تصويت على دستور يعتبر نقلة كبيرة بالمقارنة مع دستور 1996، لكن أفق الحراك في الشارع اليوم لا زال غامضا لأن سقف مطالب الحركة غير محسوم فيه، وفي شريطه الأخير يزعم الخليفي ـ وهو من أبرز وجوه الحركة ـ أن هذا السقف سيرتفع بعد 25 نونبر!!
إن حركة الشارع إذا لم يواكبها عمل سياسي يأخذ بالاعتبار موازين القوى للدخول في حوار مع كافة الأطراف في الساحة السياسية بما فيها مكونات النظام تضيع هدرا، فمعلوم أن الذي يقطف ثمرة أي نضال هو الفاعل السياسي الذي يحسن إدارة الصراع في مفاوضات تنتهي بتحضير الأجواء لمرحلة جديدة تختلف في أدوات اشتغالها والفاعلين فيها عن سابقتها.
وقد لعب هذا الدور حزب العدالة والتنمية في مرحلة ما قبل الاستفتاء على الدستور، وإلى حد ما حزب التقدم والاشتراكية ـ بالطبع دون تفويض من حركة الشارع ـ ودور السياسي الناجح أن يلتقط الفرصة للدفع بمشروعه السياسي في خدمة المجتمع إلى الأمام، حزب العدالة والتنمية الذي كان يمسك العصا من الوسط إبان بلوغ الحراك السياسي ذروته، ركز على محورين أساسيين عبر عنهما أمينه العام مع شركائه في مبادرة النضال الديمقراطي:
المحور الأول يتعلق بالشق الديمقراطي، حيث ركز الأمين العام في رسائله التي وجهها لأعلى سلطة في البلاد إلى ضرورة تغيير طريقة الحكم التي حكم بها المغاربة منذ نصف قرن، لأن استقرار البلاد في ظل الربيع الديمقراطي رهين بمدى تجديد النظام لآليات اشتغاله والتجاوب مع مطلب الحرية الذي أصبح عنوانا بارزا لهذا الحراك، وفي هذا السياق كانت خرجات الأستاذ بنكيران التي تستهدف الوسائط غير الدستورية بين الملك وشعبه، والتي بلغت أوجها باستهداف ما يسمى بحزب صديق الملك الذي كان يزعم أنه جاء ليطبق المشروع الحداثي الذي ينادي به الملك !!
المحور الثاني يتعلق بتعزيز حضور المرجعية الإسلامية في وثيقة الدستور، فمعلوم أن ما يسمى بالحداثيين النافدين، ومعظمهم من اليسار، كانت فرصتهم للإجهاز على المرجعية الإسلامية بسحب صفة " الإسلامية " عن الدولة، في المفاوضات التي جرت قبل إقرار وثيقة الدستور، لكن حزب العدالة والتنمية هدد بالتصويت ب"لا" على الدستور في حالة ما إذا تمّ المس بمقتضيات علو المرجعية الإسلامية في الوثيقة التي تعتبر أعلى قانون مرجعي للبلاد، وتمت الاستجابة لمطلبه في صيانة هوية الشعب المغربي.
الملاحظ أن حزب العدالة والتنمية لم يكن انتهازيا، وهو يخوض معركة المفاوضات مع وزارة الداخلية أو مع مستشار الملك السيد المعتصم، بل كانت مطالبه هي مطالب الشعب المغربي، وكنا في الأمانة العامّة للحزب نناقش الأمور بهذا النفس النضالي، وأحيانا كان الأستاذ بنكيران يقول : "إذا كان هدفنا من هذا العمل أن نتسلق المناصب فحسب، فلا بارك الله في جهودنا"!!
الآن هناك استثناء فيما يتعلق بهذا التحليل، فقط لمن يرى في "الحراك الفبرايري" نواتا للثورة، لأن المجلس السياسي الانتقالي الذي يتحدث باسم الثوار ويقطف ثمرة جهادهم لا يتشكل إلا بعد أن تصل الثورة مرحلة متقدمة من التضحيات وتقديم العديد من الشهداء، كما جرى مع الثورة الليبية والثورة اليمنية وأخيرا مع الثورة السورية، لكن شروط الثورة بالمغرب غير قائمة:
أولا لأن الاحتقان السياسي لم يبلغ مداه مع مجيء الحزب السلطوي، فخطاب 9 مارس كسّر مشروعه، ومحاولة بعثه من خلال دور ما يقوم به حزب الأحرار باسم "G8" لن ينفع، خصوصا إذا رفعت الإدارة يدها عن فرز الأصوات يوم الاقتراع، وهو ما وعدت به وزارة الداخلية من خلال الدورية التي تمّ تعميمها على الولاة والعمال والمسؤولين.
ثانيا لأن المغاربة متشبثون بالملكية وغير مستعدين للدخول في أي صراع من هذا القبيل، خصوصا مع مجيء جلالة الملك محمد السادس الذي أبدى تعاطفا كبيرا مع الفقراء والمساكين منذ توليه العرش، ومعلوم أن هذه الفئة من المستضعفين هي وقود الثورات في كل عصر ومصر، وإن كان نجاحها رهين بانخراط الطبقة المتوسطة في الحراك الاجتماعي، وهو ما لم نلاحظه في المغرب، لأن هذه الطبقة تراهن على التغيير الحقيقي السلمي، وهو ما يمثله مشروع العدالة والتنمية.
ثالثا لأن القوى الخارجية لها دور في إنجاح أو إفشال مشروع الثورة، والتصريحات الرسمية للإدارة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي كلها تصب في صالح النظام المغربي، وتعتبره نموذجا للاقتداء، وعلى كل حال لا يمكن البتة مقارنة النظام الملكي بالمغرب بالنظام السوري أو بالنظام اليمني، فضلا عن المقارنة بالأنظمة البائدة في ليبيا ومصر وتونس.