1
يرتبط بحالة الحقل السياسي، حيث تم الانتقال من حقل سياسي مفتوح إلى حقل سياسي مغلق على مستوى مفاوضات تشكيل الحكومة. هذا الانتقال تعكسه السرعة التي تم التوصل بها إلى جمع حكومة العثماني، الذي أعلن أن مشاوراته مع الفرقاء الحزبيين ستنطلق يوم الثلاثاء؛ غير أنه، بعد مرور خمسة أيام على هذا الإعلان، أعلن عن توصله إلى تشكيل الحكومة.
هذه السرعة تثير تساؤلات مشروعة حول إذا كنا أمام مشاريع مشاورات ومفاوضات؟ أم أمام مفاوضات ومشاورات قد جرت فعلا؟ أم أننا أمام وصفة حكومية جاهزة تحتاج إلى تأشيرة دستورية فقط؟ والإشكال ليس في المدة ذاتها بل فيما جرى فيها؟ فبنكيران خلق سابقة أطول تاريخ في مسلسل المشاورات الحكومية، والعثماني خلق سابقة أسرع حكومة في تاريخ الأنظمة السياسية، الأول خلق حالة دستورية وسياسية أحدثت دينامية وخلخلة قوية للحقل السياسي والحزبي، وعرى فيها الحقل السياسي ونشر غسيله بمنطق الوضوح وكل شيء فوق الطاولة، وتلقى فيها الشعب المغربي قاطبة دروس في القانون العام في شقه الدستوري، وبذلك يكون بنكيران قد أسهم في تسريب بعض القواعد إلى الحقل السياسي. أما الثاني تميزت "مفاوضاته" بالسرعة والغموض، وأسهم في وقت وجيز بنقل الحقل السياسي من حالة الدينامية والانفتاح إلى حالة الركود والانغلاق.
2
له علاقة بالمشهد الحزبي والممارسات التي بدأت تهز صورته لدى الرأي العام، خصوصا حزب العدالة والتنمية، الذي يبدو أنه مقبل على تصدعات داخلية؛ أبرز مؤشراتها ردود فعل عدد كبير من مكونات هذا الحزب. أضف إلى ذلك الصورة الذي سوقها رئيس الحكومة الجديد عن حزبه والذي يظهر فيها أنه يختلف رأسا على عقب مع رئيس الحكومة المعفى، ويكاد يكون قبوله بشروط شركائه كما هي بمثابة دعم نفسي ومعنوي كبير للرباعي الحزبي المتحالف معه، وأن الحزب بات يعاني بشكل غير مسبوق ليس من إشكالية التواصل السوسيولوجي بين الأجيال فقط، بل من صراع الأجنحة على مستوى القيادة، مقابل نجاح الدولة في خلق تيارات داخل حزب العدالة والتنمية.
3
تعكسه ردود فعل المجتمع على مستويين: الأول مرتبط بفكرة المأسسة في النظام السياسي المغربي، إذ إن تشخيص ردود فعل المجتمع لشخصية بنكيران قبل تشكيل أغلبية العثماني يبين أنها موزعة بين موقفين؛ الأول يحمله مسؤولية ما آلت إليه المشاورات في المرحلة الأولى، والثاني يرى فيه زعيما سياسيا كبيرا بكل المقاييس. وإن تشخيص طريقة هجوم الرأي العام على حكومة العثماني تبين أن الموقف الأول بدأ ينهار، ويقود ضمنيا إلى إعادة بناء صورة بنكيران لدى المجتمع، بالمعنى الذي يمجده ويرى فيه أنه شخصية سياسية قوية وصلبة؛ غير أن المهم في هذا التشخيص هو الخطر الذي لم ينتبه إليه البعض داخل هذه التموجات والمواقف والمتمثل في ضياع فكرة المـأسسة، ونزوع المجتمع بشكل خطير نحو شخصنة الصراعات السياسية والحزبية.
المستوى الثاني يرتبط بطريقة ربط المغاربة بين الانتخابات وبين تشكيل الحكومة؛ فالتحالف الحكومي الحالي خلف ردود فعل غير راضية بتاتا عن تحالف العثماني. وإن عدم الرضا فيه إحساس واضح بالندم على التصويت على حزب العدالة والتنمية، وهذا الأمر من شأنه أن يعمق بشكل كبير درجة العزوف عن التصويت في الانتخابات في المحطات القادمة، الشيء الذي سينعكس على النظام السياسي برمته.
4
له علاقة بمؤسسة رئيس الحكومة، إذ إن مرحلة مفاوضات بنكيران على الأقل أنه أعطيت فيها معنى وقوة دستورية وسياسية قوية لمضمون مركز رئيس الحكومة المكلف؛ فالطريقة التي أدار بها مفاوضات تشكيل الحكومة، والشكل الذي تسلل به الى الوجدان السياسي للمواطن، وقدرته على الترافع أمام باقي الأحزاب بدهاء وذكاء سياسي، ورغبته في توجيه المفاوضات وفق الإستراتيجية التي يريدها... كلها مؤشرات تبين أنه فعلا هو رئيس الحكومة المكلف. بخلاف الحالة التي أصبحت عليها الأمور مع العثماني التي ظهر فيها بمظهر السياسي الرخو.
5
يتجلى في هشاشة الروابط التي تجمع بين الأحزاب المشكلة لأغلبية حكومة العثماني، فتحليل الروافد الايديولوجية لهذه الأحزاب (العدالة والتنمية، التجمع الوطني للأحرار، الاتحاد الاشتراكي، الحركة الشعبية، الاتحاد الدستوري، التقدم والاشتراكية) يبين أن هذا الخليط الحكومي الذي يجمع هذه البنيات الحزبية يخالف كل النظريات السياسية والدستورية التي تتحدث عن مسألة التحالفات. ولا أحد يعرف الطريقة التي ستتوصل بها هذه الحكومة إلى صياغة برنامج حكومي قوي وقابل للأجرأة. كما أن هذه التركيبة لئن كان ظاهرها يبين أنها تمثل أغلبية حكومية، فهي في الواقع يمكن التمييز داخلها بين فريق يضم العدالة والتنمية والتقدم والاشتراكية، وبين فريق بقيادة التجمع الوطني الاتحاد الدستوري والحركة الشعبية والاتحاد الاشتراكي. ومن ثمّ، فالحكومة المقبلة ستدار بأكثر من رأس.
6
يبدو أن المفهوم الدستوري للأغلبية الحكومية في النظام السياسي المغربي له معنى خاص؛ لأن الواقع يؤكد أن الأغلبية الحكومية الحقيقية ليست هي الأغلبية التي يشكلها الحزب الذي حصل على المرتبة الأولى في انتخابات مجلس النواب، وإنما الأغلبية الحكومية هي الأغلبية التي تستطيع أن تجمعها مجموعة من الأحزاب بمناسبة انتخاب رئيس مجلس النواب قبل تشكيل الأغلبية الحكومية، حتى وإن كانت هذه الأغلبية تتركب من الأحزاب التي حصلت على مراتب غير المرتبة الأولى ولا الثانية بمناسبة انتخابات مجلس النواب. بمعنى أن الأغلبية التي تجمعها مجموعة من الأحزاب في مجلس النواب أثناء انتخاب هياكل المجلس هي التي تحدد الأحزاب التي ستتشكل منها الأغلبية الحكومية. وفي هذه الحالة، يصبح الحزب المتصدر لنتائج الانتخابات في وضعية تبعية تجاه هذه الأحزاب.
7
مرتبط بخطورة انتخاب هياكل مجلس النواب قبل جمع الأغلبية الحكومية، والذي أثر بشكل واضح على مسلسل المفاوضات الحكومية في الجولة الأولى، وأسهم أيضا في إفراغ الفصل الـ47 من مضمونه الدستوري، وقتل الفكرة الدستورية والحمولة السياسية للفوز بالمرتبة الأولى، وأسس لممارسة سياسية ودستورية خطيرة تتمثل في ضرورة "فرض" الحزب الذي يترأس مجلس النواب داخل التحالف الحكومي. فبعد نجاح أحزاب أغلبية مجلس النواب في فرض شروطها على رئيس الحكومة المكلف (العثماني). من الآن فصاعدا، سنشهد بعد كل انتخابات تهم مجلس النواب نوعين من الأغلبية في التفاوض؛ إحداهما تفاوض على واجهة لجمع الأغلبية الحكومية، وأخرى تفاوض لجمع الأغلبية داخل مجلس النواب.
وفي ظل هذه الحالة، يصبح الفوز بالمرتبة الأولى في انتخابات مجلس النواب بدون دلالة سياسية، ومن الصعب جدا الحديث عن الرابح والخاسر في الانتخابات، ما دام هناك مساران في مسلسل التفاوض بعد إعلان نتائج انتخاب مجلس النواب.
8
يتعلق ببصمات بنكيران في حكومة العثماني، فتفويض حزب العدالة والتنمية لبنكيران صلاحيات اختيار وزراء الحزب في حكومة العثماني ينذر بكون هذه الحكومة المقبلة ستعرف تصدعات ومشاكل كبيرة، وستكون مسرحا لمواجهات طاحنة بين شركائها؛ لأن بنكيران سيرشح الوزراء الذين يدافعون عن توجهاته وخياراته وتصوراته، وهم أدواته لتصريف سياسته ولتصفية حساباته السياسية مع خصومه الذين خاض معهم المعارك السياسية في مفاوضاته.
وسيكون المجلس الحكومي حلبة لصراع هذه الخيارات. ومن ثم، فبنكيران كتصورات وخيارات سياسية لم ينته بعد.
*أستاذ القانون الدستوري (كلية الحقوق بفاس)