|
|
|
|
|
أضيف في 30 مارس 2017 الساعة 28 : 09
كثيرا ما يحلو لبعض الناس السخرية من تأملات الفلاسفة، والانتقاص من شأنهم، ومن قدْر مُدُنهم الفاضلة، والحطّ من قيمة أنظارهم وأفكارهم العقلية؛ لكن أهمُّ حكْم صدر في حق الفلسفة، عامة، هو ذلك الحكْم الذي أصدره الجهلاء بالإجماع، في المقاهي، والحواضر، والمداشر، ببلادنا؛ وكان القضاة فيه هم أولئك الذين لم يقرؤوا يوما نصا فلسفيا واحدا، فما بالك بتعاطيها، والتفكير في مواضعها؛ فكان حكْمهم هو أن الفلسفة تؤدي إلى الإلحاد، ثم زكّاهم شيوخُ الدين، الذين يكرهون كل خصم يدعو إلى الوعي، ويحثّ على الأسئلة، ويطلب الأدلة والبراهين؛ وهذا ما يخافه شيوخ الدين لينفردوا بالعقول وهي جامدة، وخاوية، فيمْلؤُونها بما أرادوا من خُزَعْبلاتهم، ويحلّلون ما شاؤوا ويفتون الناس البسطاء بما شاؤوا، وهو الأصل في الإرهاب، والتخلف الفكري والعقائدي، فترى الجاهلَ، يصدّق مثلا أن أمَّ شيخِه تحدّث الناس في قبرها؛ وأن النبي (وحاشا ذلك) يغسل أقدامَ [ياسين]، وأن [عائشة وفاطمة] رضي الله عنهما تخدمان أهل الجماعة عندما يجتمعون، فلا يراهما إلا المؤمنون، ثم يصدّق أن سيّدةً أصيبت سيارتُها على الطريق في إسبانيا، فدعتْ باسم محمّد صلى الله عليه وسلم، لكن دون جدوى؛ ولما دعت باسم [ياسين] اشتغل محرّك السيارة؛ ثم يصدّق أن النبي الكريم كان سيصلي بالناس في مسجد بالقاهرة، وفجأة دخل [محمد مرسي] ففضّله النبي على نفسه، وأمره أن يصلّي بالناس؛ وإذا سمع حديثا في [الصحيح] مفادُه أن قردَةً زنت فرُجمت، ورجمها معهم راوي الحديث، ترى الجهلاء يصدّقون، ويهتفون: الله أكبر! والغربيون يضحكون ويسخرون منا..
أمّة كهذه هي ما يريده [ياسين، وبنكيران، والقرضاوي، ولحْويني] وغيرهم من أصحاب الضلال، والضحك على ذقون السذج، والمصيبة أنك تجد من بين هؤلاء السذج الطبيب، والمهندس، والأستاذ، وأصحاب الشهادات العليا لتعْلم أن المشكل عميق، والجهل أعمَق، والكارثة فادحة، وقد التقيتُ بنماذج من هؤلاء، وهو ما جعل [سارتر] لا يحسب أصحابَ هذه الشهادات من المثقفين في كتابه [دفاعا عن المثقفين] فصدقتْ نظرية هذا الفيلسوف لِـما رأيتُه من نماذج تؤكد صدْقَها بالملموس، وبالشهادات في الواقع المحسوس للأسف الشديد.. ثم تجد الإرهابي يقتل نفسه، ويقتل الأبرياء غيرَه، فيسمّونه شهيدًا، ويقيمون صلاة الغائب، ويترحّمون عليه، فتنزل عليهم اللعنات، كما نزلت عليه قبلهم لعناتُ ربّ العالمين.. ثم يدفعون النساء لممارسة الزّنى بدعوى جهاد النكاح، فيرسل الرجل زوجتَه، أو ابنتَه إلى الدعارة، وابنَه إلى ميدان القتل، لينال الرجل نصيبه من أجر [الجهاد] فيما الذين أباحوا له ذلك باسم الدين، لا يفعلون ذلك.. لذلك تراهم يحرّمون الفلسفة، وينهون عن تعلّمِها، نظرا لما تولّده من فطنة، وذكاء، وتنوير..
ولكن أراد هؤلاء أو لم يريدوا، فالتفكير الفلسفي قوة جبارة، تكمن وراء شتى الانقلابات الهائلة، والتغيرات الحاسمة.. فالفلسفة هي في حد ذاتها معيار يقاس به التقدم التاريخي بوجه عام، وهي التي انتصرت في القرون الوسطى على سلطة وهيمنة رجال الدين، فتخلّى أمراءُ الكنيسة من أمثال [بوسْويه وفنلون] عن مكانتهم الفكرية لأمراء الفلسفة من أمثال [كوندياك] الذي عُهد إليه بمهمة تعليم ولي عهد [بارما]، بدلا من القساوسة والرهبان.. قد يقال لي: هل هناك علاقة بين الفلسفة والسياسة أيضا؟ الجواب: نعم؛ وهذا [روسو] مثلا معلّم أوربا الحديثة يُسْتشار بخصوص دساتير بعض الدول، ونحن نعرف كيف كانت الصّلات وثيقةً بين [ديكارت] والملكة [كريستين]، وبين [ڤولتير] و[فريدريك الكبير]؛ وبين [ديدُرو] والملكة [كاترين II] واليوم، تعترف الديموقراطيات الحديثة بما لأهل الفكر الفلسفي من أثر لا يُنْكَر؛ فماذا جنيناه نحن من كثرة علماء الدين، ومجالِسهم العِلْمية؟ ماذا استفدناه نحن من كثرة أحزاب تعجّ بالجَهلة والوصوليين؟ إننا لنجد [أوغست كونت] يؤكد أن سَيْر النظر العقلي، هو المحرك الأساسي لشتى الحركات والتغيرات الاجتماعية.. وهذا [جون ستيوارت مِلْ] يؤكّد أيضا ما ذهب إليه إمامُ [الوضعية] فيقرر أن تقدُّم الفلسفة هو الذي تحكّم بصفة عامة في كل ما أحرزتْه المجتمعاتُ من تقدُّم؛ فماذا أحرزناه نحن بشيوخ من أمثال [ابن تيمية، وابن الجوْزية] وأتباعهم من أمثال [القرضاوي، والعرعور، وحسّان] غير التخلف والإرهاب؟
فلو كان الفكر الفلسفي طاغيا في بلادنا، هل كان [بنكيران] سيصل إلى السلطة؟ لو كان النظر العقلي متفشّيا في المجتمع، هل كنتَ سترى كل هذه الخلايا الإرهابية؟ لو كانت الفلسفة منتشرة، هل كان سيصل العوام والجهلة إلى برلمان الأمّة؟ لو كانت فلسفة اللغة موجودة، هل كان المتحزّبون سيعتمدون لغةً تعجّ بأشباه الألفاظ؟ هل كانت كتب دينية فارغة وبلا مضمون هي التي ستملأ الرفوف، ويتهافت عليها أصحاب العقول الدنيا؟ يقول فيلسوف من أمثال [هيوم]: [هل هذا الكتاب يحتوي على أيّ تدليل مجرّد حول الكمية والعدد؟ هل يحتوي على أي تدليل تجريبي حول الحقائق القائمة في الوجود؟ إذن اِقذِفْ به في النار]؛ وثُلثَا كتب التّراث في أمّتنا، تستحق أن يُقْذَف بها في النار لما جنته علينا، بل هي (أي الكتب) هي التي قذفت بنا في النار، وما زلنا نقدّسها، ونبجّل أصحابها.. لو كانت فلسفة اللغة هي المسيطرة، والمحدِّدة للألفاظ، والمدَقّقة في معاني الكلمات المستعملة التي نعتبرها واضحة وهي ليست كذلك، مثل لفْظتي [الحق والواجب] عند السياسيين الذين جعلوا من عملية التصويت حقّا وواجبا، فيما الأمر ليس كذلك حسب التحليل اللغوي الذي تعتمده الفلسفة؟ فالذين يحتكرون الدين، ويكفّرون الفلاسفة، يعتمدون على ما قاله غيرهم في زمانهم؛ فإن سألتَهم عن [الرجْع] مثلا أجابوا بأنه المطر، والبرق، و، و؛ وما فطنوا أنه كذلك الموجات الناقلة للصوت والصورة عبر الفضاء.. وبجهْلهم لمفهوم [القِوامة] أذلّوا المرأة وجنوا عليها.. كما أنهم لا يُفَرقون بين معاني لفظة [أمّة] وقد وردت في القرآن الكريم في 64 آية؛ فكانت كلها ذات دلالة واحدة، إلا في أربع آيات كانت لها معانٍ مختلفة تماما؛ وبجهْلهم هذا زجّوا بأمم وشعوب في بحر من الدماء.. لكنّ الفلاسفة وضّحوا لنا كل هذه المعاني القرآنية، وعلى ذلك يستحقّون الشكر والثناء..
إذن أحَبَّ الخصومُ الجهلاءُ أو أبوا، فالفلسفة هي التي نميّز بها بين الفكرة الصائبة والفكرة الخاطئة؛ بين الفكرة الصادقة والفكرة الكاذبة؛ بين الفكرة الجيدة والفكرة السيئة؛ بين السياسة الحكيمة والسياسة المتهافتة.. ولاشك أن فكرة كل شعب عن مِثال الإنسان [أو كما ينبغي أن يكون عليه المواطن الصالح]، إنما هي التي تعمل عملها في تحديد المستوى الأخلاقي لكل شعب.. وهكذا؛ نخْلص إلى القول، إن أفكار الفلاسفة عن علاقة الفرد بالدولة، وصفات الحكومة المثْلى، ومميّزات الحكْم العادل، وعلاقة الحكّام بالمحكومين، وصلة القانون الوضعي بالقانون الطبيعي، وتوزيع السلطات، وحقوق الأفراد وواجباتهم، وقسْ على ذلك؛ كل هذا لم يضع سدًى في حياة الأمم والدول؛ وتردّدت أصداؤه في أشكال الحكومات، وأنواع التنظيمات، وضروب الدساتير، ونحن رغم أننا قلّدنا بعضا من هذا، فإننا لم ولن نفْلح، لأنه ليست لنا فلسفة خاصة بنا تكيّفه مع طبيعة مجتمعنا، ومع ظروفه، ومع أحواله العقلية والوجدانية، كي يُطْبَعَ بطابعنا الفكري، ويُصْبغَ بصبغتنا؛ وكيف ذلك، ونحن أصدرنا حكْمنا على الفلسفة، وانتهينا من أمْرها؛ فماذا بقي لنا غيْر عقائدَ مغلوطة، وترتيلٍ للقرآن تُنظَّم له مسابقاتٌ، ولم نقرأه قراءة عميقة، وفقهاء الطاغوت يبيحون القتل، والغدر، والدعارةَ بدعوى الجهاد، وسياسيون أميون يعتبروننا قطيعا لا شعبا له عقلٌ ووجدان.
صاحب المقال : فارس محمد
|
|
1973 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|