أحيانا تكشف قضايا صغرى عن مشاريع كبرى، وتكون فاتحة لفهم التطور الحاصل في قطاع من القطاعات. لهذا لا يمكن أن يمر الكشف وتوقيف المتورطين في جريمة قتل البرلماني عن الاتحاد الدستوري عبد اللطيف مرداس دون قراءة ودون الانتباه إلى طريقة التحقيق فيها وزمن الوصول إلى المعلومات الخاصة بها، ولابد من أن نقول دون خجل إن المكتب المركزي للأبحاث القضائية، التابع للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، استطاع في وقت وجيز مراكمة نتائج باهرة تؤكد أنه كان حاجة في الوقت المناسب.
عندما تم تأسيسه ظن البعض أنه مجرد التفاف على القانون لمنح الديستي أو بعض عناصرها الصفة الضبطية، وقد خاب ظنهم المبني على مرتكزات مغرضة. لقد اتضح أنه جاء في الوقت المناسب لمواكبة تطور الجريمة في زمن يتميز بتنوع الجريمة ودخولها عصر الالتباس والغموض، وبالتالي كان من الضروري توفر المغرب على قوة أمنية تضرب بقوة في مختلف المجالات باحترافية عالية.
لقد رافق التحقيق في جريمة قتل مرداس إشاعات كبيرة، وزاد عليها من التوابل إعلام غير مهني، حيث صدر غداة مقتله مانشيط كبير عن اغتيال نائب برلماني، والاغتيال مفهوم للقتل مخصوص بالعمل السياسي، بينما اتضح أن الجريمة هي مجرد "جنس ومال".
وتدخل المكتب المركزي بكل قوة ليصل بسرعة إلى منفذي الجريمة، التي تدخل في إطار الجرائم العادية لكنها تتميز بغموض كثير خصوصا أن القاتل كان في صف المعزين المتأثرين بوفاة صديق والزوجة المتورطة لبست ثياب الحداد على فقدان الزوج. ولا يمكن الاستهانة بهذا المجهود نظرا لطبيعة الجريمة ولطبيعة من ارتكبها ولاختلاط الأوراق بين السياسي والاجتماعي وضياع الحقيقة في خضم الضجيج الذي أثير حول الحادث.
اتخذنا قضية مرداس، رغم كونها ضمن الجرائم العادية، للدلالة على قدرة المكتب على فك الألغاز، التي تحير العقول، خصوصا وأن اتجاهات كثيرة ظهرت، وظهرت تحليلات تربط بين الجريمة والعلاقات المتشعبة للرجل داخليا وخارجيا. إذن ما يهمنا منها هو طبيعة الكشف عن المنفذين الحقيقيين للجريمة وكيفية الوصول إليها.
ليست القضية سوى قطرة في بحر من القضايا التي تمت معالجتها منذ إنشاء المكتب المركزي، خصوصا قضايا المخدرات وتبييض الأموال ودخل عالم البضائع الفاسدة ناهيك عن الإرهاب الذي كافحه باحترافية أبهرت العالم.
والإشادة بالمكتب المركزي لا تعني التقليل من أي مجهود يقوم به القائمون على أمن الوطن واستقراره وعلى الأمن العام للمواطنين، ولكن فقط للتنبيه إلى أن المفهوم الجديد للأمن، الذي جاء فيه عبد اللطيف الحموشي، المدير العام للإدارة العامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، الذي اهتم بالعنصر البشري باعتباره الفاعل الأساسي ناهيك عن العقيدة الأمنية المبنية على التعاون بين مكونات الأمن من مختلف المواقع.
هذا المفهوم يؤكد اليوم أن منهجية التنسيق هي أس العمل الأمني. لكن ونحن نتحدث عن نجاعة الأمن لابد من الحديث عن الحاضنة الشعبية، حيث لا يمكن للأمن أن يؤدي دوره دون أن تكون رؤية المجتمع له رؤية افتخار واعتزاز، ونأسف شديدا لأن بضعة أشخاص استغلهم سياسيون تافهون أحرقوا سيارات للأمن، التي يحتمون بها إذا ما هاجمهم مجرمون.