مقولتان في غاية البدائية والبذاءة، تكرسان على التوالي، كمّا وكيفا، نوعا وتنوعا، داخل مجتمعنا، منظومة إقصاء ملتهبة جدا، تضمر أقصى أنواع العنف الرمزي:
- شكون انت في لْبْلاد، أو شكون بّاكْ في "البَّاوات"أو "الباهاوات"، حسب التعبير المصري؟
ثم:
- واش ماعرفتيني شكون أنا؟
بمعنى، إما تلغيك وتعدمك الأولى جملة وتفصيلا! أو تلدك الثانية ولادة مكتملة، لأنك معرَّف أو امتلكت تعريفا، بشيء ما.
كلما أبدى شخص في هذا البلاد "نكرة شيئيا" مغلوبا على أمره، برأيه ولو جاء ثاقبا، إلا وصرخ في وجهه منذ الوهلة الأولى "محاوره" ثم بعدها "محاوروه": من أنت يا هذا، لتنبس بكذا وكذا، يا ابن إيه…؟ وقد يتطور الأمر ويلعنون وجوده ووجود أمه وباقي سلالته، أي عندما تصير المسألة قضية جماهيرية وعمومية، إذا اتخذ الرأي بعدا عاما، صدر من لدن شخصية متداولة. لذا، يكفي مجرد الإدلاء برأي موقف مخالف، مع أنه حقك أولا وأخيرا، حسب كل الشرائع، وقد يكون سليما تعليلا وبرهنة، لكي تتساقط بسرعة البرق اللعنات على رأسك كقطع البَرَد، من كل حدب وصوب، باستنادها على القاعدة الزجرية الجاهزة:
- شكون بّاكْ في هذه البلاد، لتقول ما قلت؟
أي لا رأي سوى لمن تمتع سلفا برمزية "شيئية"، ضمن النسقية البطريركية. على العكس، قد تكون تافها وتكشف عن تصورات ورؤى في غاية السذاجة والغباء والتفاهة، لكن إن امتلكت أصلا، جوابا يفحم بالحجة والدليل، محددات هوياتية من قبيل: ألا تعرف مع من تتكلم؟ ألا تدري من أنا؟ يصير الأمر بسرعة، حجة لك ولصالحك.
مرجعيتان تعضدان وترسخان لبنات البنية الهرمية للتسلط والاستبداد، وتقتلعان جوهريا منظومة مجتمع المواطنة، حيث يحظى الفرد في ذاته ولذاته وبذاته وعن ذاته، كليا ومطلقا، بالتبجيل والتقدير والاهتمام، مجردا عن أي تأثيث وهمي مصدره التشيؤ الطبقي المجتمعي.
من أنت؟ سؤال استنكاري، يضمر مبدئيا تحقيرا جذريا لوجود كائن ما؛ لأنه في مجتمع كمجتمعنا يسوده منطق الحشد والتبعية والانقياد الأعمى، بالتالي لا ينبغي الخروج عن قاعدة النمط القائم ومرتكزات فلسفات التنميط. لذلك، تشحذ السكاكين وتعلن حروب الجاهلية، بهدف تبخيس الهمم الذكية والنبيلة، ومأسسة الغوغائية كي تتصدى نسقيا، لمختلف المبادرات المغايرة التي تتوخى طرح ممكنات غير معطيات التوتاليتارية.
إذن، حينما تنتفي بناءات ثنائية العقل والحرية، تحضر شتى المعاول الهدامة.هكذا، ضمن سياق مرجعيتي: من أنت؟ ألا تعرف من أنا؟ طبعا بعيدا تمام الابتعاد عن محدداتهما وأطرهما الإغريقية والأنوارية والوجودية، بحيث يظل قائما جواب جامع مانع: أنا كائن ليس كباقي الكائنات؛ بل لا يفترض أن أكون نسخة منها، وإلا توقف التاريخ وانتهى العالم وتلاشت أدبيات العلم. أنا كائن حر، مسؤول تماما عن اختياراتي ومصيري.
الصراع الحدي، الإقصائي مبدئيا، بين الشعارين الجاهزين اللذين يغالطان بالمصادرة على المطلوب، احتماء بالمتاريس المخملية، لكنها حقيقة أشرس وأمضى من أنياب الذئب، للتراتبية اللينة التي يطويها دهاء استبداد القفازات الحريرية، تجاوزا لفظاظة وعتاقة نموذج الاستبداد الحديدي: من أنا؟ ألا تعرف من أنا؟ يقتلعان أسس مجتمع التسامح والإحساس العميق والمشبع بالمواطنة والمساواة داخل الوطن، بوضع الفرد كفرد، وسط المنظومة المجتمعية، مقدسا ومتساميا ومتعاليا، عن أيّ اختزال تصنيفي.
إن ما تعبر عنه الممارسة اليومية الشعبية بـ"الحكرة"، تحويرا للاحتقار الذي أضحى أكثر المفاهيم ذيوعا وانتشارا إلى جانب الفساد، يبيّن بجلاء كمية الصراعات الذي تتفاعل رويدا رويدا ضمن العمق الاجتماعي، انطلاقا من سيادة قيمتين، لا ثالث لهما: التسلط أو الخنوع. علاقات عمودية، وفق شكل هرمي، بين من يملكون ثم فقط من يتابعون.
نتيجة كل ذلك، وتأبيدا لهذا الكل، صار البشر رقما، والعاقل مجنونا، والصواب خبلا، والمتفرد نشازا، والتخلف واقعا، والتحضر أسطورة، والفكر النقدي تشنيعا، والغوغائية تمجيدا، والممكن وبالا، والتفاهة إنجازا، والحشد نباهة وتمكّنا، والحكمة مروقا، والضحالة جدة وحداثة...