اسمك عبد الكريم الكحلي، ولم يكن من السهل أن أعلم هذا؛ لأن كل وسائل الإعلام التي ساءلت، بخصوص انسانيتك وليس مجرد وظيفتك، تتحدث فقط عن عنصر من الوقاية المدنية قضى في حريق سيدي موسى بسلا.
يصرون -ليس قصدا وإنما من قلة اللباقة-على أن تظل، وأنت البطل الشهيد، نكرة لدى المواطنين، كأنك لست أنت الإنسان والأب والزوج والابن الذي يقطن بعين عودة، ويتدثر بدفء أسرته، كما نتدثر جميعا.
حتى "الرُّوبو" الإطفائي، وكل الناقلات الحمراء، وخراطيم المياه، عناصر من الوقاية المدنية، لكن الإنسان إنسان يحمل اسما وهوية.
حتى المجرم نميزه باسمه، فكيف بعبد الكريم الكحلي، وهو بطل مغوار، أعاد الينا الثقة -باستشهاده، وهو في نزال ضد النار، وضد الموت ليعيش الآخرون-في بقاء جذوة الفداء مشتعلة في هذا الوطن.
حتى الوفد الرسمي، من ضباط الوقاية المدنية، غفل عن تسميتك، وهو يقدم التعازي لأسرتك؛ فكيف ألوم الإعلام بعد هذا؟
كأنك لست الأب الذي تسلل من فراشه باكرا استجابة لنداء الواجب، وفي نيته أن يكون يومه كسائر الأيام، لكن هذا اليوم كان آخر أيامه في الحياة.
نعيش زمن صناعة الأسماء والأبطال والأمجاد، حتى بدون بطولة ولا مجد، إذا كان هذا يخدم أهداف أحزاب أو جماعات أو تيارات.
وصرنا أميل إلى الجنازات "المليونية"، حينما يدعو الداعي، وتتوفر التوابل المعروفة، وليس طلبا لثواب السير فيها.
(قديما ماتت أَمَة ُالقاضي فهبت بغداد كلها لدفنها، وحين مات القاضي، إياه، دفنته أسرته فقط).
أما أن يموت اطفائي، عالقا يصارع النيران، والناس قيام ينظرون، أو أن تَدُك عجلات سيارة طائشة شرطيا أو دركيا أو جمركيا، فهذا لا يخدم قضية، ولا يحشد أتباعا.
قصاصات هنا وهناك، ويطوى الحدث في انتظار اللاحق.
لا زلنا أسرى ثقافة تصنف المواطنين، وتنظر إلى "خدام المخزن" وكأنهم سكان "الجزيرة العجيبة الغريبة الأعجوبة المتعجبة"، كما كان يقول القائد فنيش. فئة توجد في الضفة الأخرى ولا يعنينا أمرها، حتى وهي تضحي بالروح في سبيل انعقاد الواجب واجبا فعلا.
في حالة عبد الكريم الكحلي، رحمه الله، استمعت إلى غضب الساكنة الشديد، وخصوصا المتضررين المباشرين من سكان العمارة المنهارة، لكن لا أحد غضب لقلة حيلة وذات يد الوقاية المدنية وهي تصارع ببطولة النيران.
لا أحد غضب لموت اطفائي، لم تتوفر له إمكانيات المواجهة، وحماية المواطنين والذات في الوقت نفسه.
إن العارفين بوسائل المواجهة الحديثة، في مثل نازلة سيدي موسى، يجزمون بأن ما عرضته الأشرطة مجرد عمل هواة، رغم صدقهم في البلاء.
ما كان لمخزن خشب، أو معمل، أن يوجد في وسط الساكنة؛ وهذه هي المرحلة الأولى في أداء الوقاية المدنية.
إن لم تُمَكَّن من سلطة درء المخاطر قبل وقوعها، فلا تنتظروا منها إطفاء ما أشعلته اللامبالاة.
وما كان لعبد الكريم أن يباغته الانفجار، لو توفرت الهندسة الدقيقة للمكان، والتحييد اللازم لكل مصادر الخطر. وقبل هذا الاستثمار في السلامة العمالية، بالنسبة لمالك المخزن.
نتجول في أسواقنا القروية فنرى العجب العجاب من كل بنات الخطر. قنينات غاز كبيرة بجانب كتل من الجمر، وحولها الناس، قيام وجلوس، وقد اختزلوا في مجرد أفواه تبتلع.
تتجول في مساحات المتلاشيات بمدننا، فتصاب بالذهول، وأنت ترى الناس قد افترشوا الأخطار وتدثروا بها؛ لأن كل ما يحيط بهم قابل للانفجار والاشتعال، ولا منفذ للنجاة، حيثما وليت بوجهك أو رجليك.
حينما قررت احدى القنينات أن تنفجر، بسوق عين عودة، لا أحد ساءل الحدث تقنيا، ولا رتب الخلاصات حتى لا يتكرر في أسواق أخرى.
وحينما احترق سوق مليلية بوجدة، لم يكن ذلك إلا تحصيل حاصل؛ لأن كل عناصر الحريق كانت متوفرة فيه، ومنذ سنين، كما هي متوفرة اليوم في سوق الفلاح القريب منه.
لقد ألفنا ألا تحضر الوقاية المدنية إلا بعد حدوث المكاره، وفي هذا تغييب لأدوار التوقع، الارشاد والزجر إن اقتضى الحال.
من هنا يجب إعادة النظر في اختصاصات هذا الجهاز في اتجاه جعل أدائه استباقيا وتوقعيا، يتصدى لكل من/ما يعرض سلامة المواطنين للخطر.
وداعا عبد الكريم، عصفور النار الذي قاوم النيران إلى آخر رمق.
عزائي لكل أفراد الأسرة التي قدر الله أن يكون منها هذا البطل الذي برهن على أن أرحام المغربيات ما زالت تلد البطولات.
وعزائي أيضا لأسرة الوقاية المدنية، التي تتقدم دائما، حينما يتراجع الناس.
رمضان مصباح الادريسي.