من جملة الأسئلة المطروحة في المشهد السياسي الآن، هل ستشارك كتلة المتماهين مع المشروع الحداثي الديمقراطي في المشروع السياسي الجديد للدولة و وظائفها الإدارية؟ أم سيتم الاستمرار في استقطاب واستيعاب النخب العصبية المقربة من الأصولية في كل أبعادها؟ وإلى أي حد ستستمر الدولة طرفا نشيطا متحكما في الشروط والظروف التي تكتنف حياتنا السياسية؟ وما هي تأثيرات القوى الاجتماعية العامة التي لم تعد تمتلك لا تصورا مجتمعيا، ولا سلطة نقابية ولا مدنية ولا ثقافية؟ وفي غياب الابتكار النشط والخلق المتكافئ والإبداع المتجدد، ما هي القيم والأفكار الخصوصية لمغرب الغد بعيدا عن أي خضوع لثقافة التبعية؟
لم يعد اليوم أمام المغرب من خيار للحفاظ عل استقراره السياسي، سوى تجسيد مظاهر التنمية في المجتمع من خلال التعديلات الوظيفية والديمقراطية التي تقوي عناصر المشاركة والمساهمة في تحسين الوضعية المعيشية لملايين المغربيات والمغاربة، والحد من ضعف مستوى الديمقراطية، وإعادة توزيع الأدوار واستراتيجيات الانتظام الاجتماعي. وإذا كان شعار التغير الاجتماعي في المغرب بات عاما ومنتشرا، ومتداخلا في حياة الأفراد والجماعات، فلأن إدراك التحولات الاجتماعية، ومخاطر الأصولية العصبية الثقافية والسياسية والدينية، زعزع الفهم المخزني العتيق للحركية السريعة التي يعيشها المجتمع منذ بداية الثمانينات، والتي كان يتم اختزالها في العمران، التجارة والصناعة، الفلاحة، العلاقات الخارجية، والأمن. في حين ظلت الثقافة والتعليم و التربية والتكوين والمسألة اللغوية، مجال اهتمام وانشغال ثلة من الحالمين بالتغيير في بلادنا.
ولعل ما حققته الدولة اليوم من انتقالات حقوقية ونسائية، ومن التزامات قانونية وأنظمة تجارية ومهنية، ومن توجهات غير مسبوقة نحو هاجس المواطنة، بات معتقلا بسبب الرؤية الازدواجية المتأثرة بثقل الموروث الأصولي، وبعادات وتقاليد بالية تغذيها الأمية والسلطوية.
و إذا كانت "النيوأصولية" تقدم نفسا اليوم في المغرب وغيره، بديلا للتخلص التدريجي من ثقل التقاليد، والانتقال من الدعوة المقتصرة على المسلمين إلى ما هو أكبر وأشمل، ومحاولة تمرير "المشروع الجديد" من خلال الحداثيين أنفسهم و المخضرمين منهم، فلأن الأطروحات العتيقة لقوى اليسار المغربي، باتت هي الأخرى متجاوزة، وتعيش سجينة الثقافة السائدة التي تساعد على الشخصنة، وانعدام المراقبة الذاتية، والاستبداد بالرأي، وعدم التفاعل الإيجابي مع قيم ومفاهيم الشراكة والتعددية.
إن تعثر الانتقال الديمقراطي ببلادنا، لا يمكن تجاوزه إلا بفهم المشترك بين المغاربة قاطبة والاحتكام لكل ما يجمع بيننا، لأن المجتمع لازالت له اليد العليا علينا، ولأنه أكبر وأضخم وأهم بكثير من مجموع أفعالنا وتصرفاتنا، رغم ما لنا جميعا من دور في تنشيط البنية الاجتماعية وإعادة إنتاجها.
لقد عشنا في المغرب ما يكفي من التجارب السياسية منذ الاستقلال، لكن ما نعيشه اليوم هو شيء جديد يدعو للتأمل ولطرح السؤال، خاصة وأن دعاة "النيوأصولية"، الذين يعتبرون أن الإسلام التقليدي قد بات راكدا ويحتاج إلى تجديد أو إحياء، ماضون في تأسيس فهم مغاير للقضايا الفقهية المرتبطة باستخدام المعرفة، وللقضايا الاجتماعية الشائكة مثل تعدد الزوجات والطلاق والإرث والمرأة والسياسة، وللقضايا السياسية المتعلقة بالدولة الإسلامية، الأمة والشورى والتعليم، وللقضايا الاقتصادية المتعلقة بالثروة والعدالة، وللقضايا المرتبطة بالحداثة.
ومن خلال ما ينتظرنا من تفكير عميق في كل هذه التحولات التي تخترق مجتمعنا وسلوكنا وحالتنا، ومعالم ممارساتنا السياسية، فإن الاحتكام للمشترك بيننا قد يساعدنا على إيجاد نوع من التوازن المبادر والفعال بين بنية تفكيرنا وفعلنا، حتى نتجاوز العرقية والكراهية وكل أشكال العنف. وإن الدعوة لترسيخ قواعد المشترك والتعايش بيننا، هي دعوة لاستخدام ذكاءنا الاجتماعي من أجل مغرب آمن وموحد، رغم ما يفترضه قانون الصراع من نزاعات وتوترات واختلافات.
ونظرا لما يشهده العالم، والعديد من الدول الصديقة والشقيقة، من فتن وفوضى وعنف وإرهاب، فإن المحافظة على مجتمعنا وعلى استمراريته واستدامته، رهين بإعادة النظر في العديد من مؤسساتنا، مثل السلطة، والدين، والعائلة، والنسق التعليمي التربوي والتكويني، وبتناغم وانسجام أدوارها ووظائفها المشتركة، لأن الورش الذي سيطبع مغرب الغد، هو المشروع المجتمعي المغربي، الذي يبقى تحقيقه مرتبطا بتضافر جهود الفاعلين، سواء تعلق الأمر بالدولة أو الهيئات السياسية أو النخب، لحمل هذا المشروع وتنزيله على أرض الواقع.