محمد ابن الأزرق الأنجري*
الجزء الثاني: حديث " ويل للعرب "
أخرج البخاري ومسلم رحمهما الله من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا» وَحَلَّقَ إِبْهَامَهُ بِالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زينب : فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» .
واستدل به علماؤنا رحمهم الله على أن ردم يأجوج ومأجوج بدأ فتحه زمن النبوة حقيقة ، وأن خروجهم قريب ، وأنهم يتسلّطون على الأمة إذا كثُر المنكر فيها ولو بقي بعض الصالحين .
وهذا الحديث صحيح في أصله ، لحقه التحريف والبتر، فأدى بعلمائنا رحمهم الله إلى هذا الفهم المرفوض ، ولست أدري كيف غابت عنهم عند شرحه وتدبره الرواية الصريحة .
الرواية المحرّفة المفسدة للحديث :
روى الإمام ابن شهاب الزُّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ بن الزبير، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا» ، وَحَلَّقَ إِبْهَامَهُ بِالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» (جامع معمر بن راشد (11/363) ، ومصنف عبد الرزاق 2/293 ، ومسند أحمد ح27414 و27416 وصحيح البخاري ح 3346 و 3598 و7135 وسنن النسائي الكبرى ح 11270 ) .
يبدو من هذه الرواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان خارج البيت ، فلما دخل على زوجه زينب رضي الله عنها ، قال له ما جاء في الحديث .
وليس كذلك ، والصواب أنه عليه السلام كان نائما فرأى رؤيا أفزعته ، فخرج من مكان في بيته حيث كان نائما ، ودخل على السيدة زينب في ناحية أخرى من البيت ، فجرى الحوار بينهما ، كما هو واضح بين في الرواية التامة المفصلة ، وهي :
الرواية التامة الصحيحة المهملة :
قال الزُّهْرِيُّ رحمه الله : أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، ( عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أُمِّ حَبِيبَةَ ) عَنْ أُمِّهَا أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَوْمٍ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ وَهُوَ يَقُولُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرْبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ» وَعَقَدَ سُفْيَانُ عَشَرَةً، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» ( مصنف ابن أبي شيبة 7/459 ، ومسند أحمد ح 27413 ، مسند الحميدي (1/315) ، والفتن لنعيم بن حماد 2/591 ، وصحيح البخاري ح 7059 وصحيح مسلم ح 2880 ، والسنن الكبرى للنسائي ح 11249 ، وسنن الترمذي ح 2187 وسنن ابن ماجه ح3953 ومسند ابن راهويه 4/256 )
واضح أن المسألة تتعلق برؤيا منامية ، أي انفتاح الردم قدر الدرهم منامي رمزي معنوي لا محسوس ، فالردم الذي بناه ذو القرنين لم يحدث فيه أي ثقب في عالم المادة والحس ، بل حدث ذلك له في عالم المثال والرمز والخيال .
فلا حجة لعلمائنا في هذا الحديث ، ولا ندري كيف غاب عنهم هذا المعنى الواضح البين ، إلا أن يكون مثالا على أثر الخرافات الجاثمة على عقولهم .
إذن ، فما رآه رسول الله في هذا المنام المفزع ، لا علاقة له بعالم الحس ، ولا يفيد بأي حال أن ردم ذي القرنين انفتح حقا وواقعا ، قليلا أو كثيرا .
نفي علاقة الحديث بالأسطورة اليأجموجية :
تقول الأسطورة التي نسعى لقلعها من جذورها :
يأجوج وماجوج مخلوقات بشرية أـو شبه بشرية مسجونة تحت أو خلف ردم ذي القرنين .
ومنذ ذلك الحين وهم يحفرون في الردم يوميا ، ثم ينامون فيجدون الردم عاد كما كان لأنهم لا يقولون : إن شاء الله .
وحين يحلُّ موعد خروجهم سيقولون إن شاء الله فيفتح ردمهم .
ينطلقون من كل ناحية ، ويجوبون الأرض طولا وعرضا ، يشربون ماءها ، ويأكلون طعامها ، ويبيدون كل قوة تعترضهم بمن في ذلك المسلمون بقيادة سيدنا عيسى عليه السلام ، فإنهم سيهربون معه إلى جبل الطور بصحراء سيناء ، ويعانون هناك حصارا خانقا ، ينتهي بالضراعة إلى الله أن يرفع بلاء يأجوج ومأجوج عنهم ، فيقضي عليهم بحكمته وقدرته سبحانه ، ثم تصبح جثثهم طعاما لمواشي المسلمين ، فتسمن .
وأكثر من ذلك ، فإن يأجوج ومأجوج سيحاربون سكان السماء بعد القضاء على سكان الأرض ، فيرمونهم بالنبال والسهام حتى ترجع إليهم متضمّخة بدماء أهل الفضاء.
ونحن نسأل إخواننا المحتجين بحديث : " فتح من ردم ياجوج وماجوج " عن وجه الدلالة فيه على أي من تفاصيل الأسطورة محلّ النزاع .
لو سايرناهم في كونه فتحا ماديا محسوسا لما كان فيه لهم أي مستمسك إلا التعسّف وتكلّف التأويل .
فالحديث فيه حدوث الفتح في الردم، وليس فيه أنهم أحياء تحته أو خلفه ، ولا أنهم يخرجون في زمن كذا ويفعلوا كذا ويحدث لهم كذا .
والفتح المادي لا يستلزم شيئا من ذلك .
فلا ندري كيف يؤيدون الأسطورة بمثل هذا الحديث الخالي من الدلالة على أي جزء منها .
وقد استغل الوضاعون قصة ياجوج وماجوج القرآنية ومعها مثل هذا الحديث ، فزادوا وأفسدوا مستغلين تصديق المسلمين بالأصل القرآني والنبوي .
مناقضة تفسير الحديث للقرآن الكريم :
يخبرنا ربنا سبحانه في قصة ذي القرنين أن ردمه لا يفتح أبدا ، بل سيتعرض للدّك يوم القيامة مع الجبال التي يقع فيها ، وذلك قوله سبحانه وتعالى :
( فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً . قالَ: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ، فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكّا وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) .
ووعدُ الله في كتابه هو القيامة والساعة ، إلا أن ترِد معه قرينة تصرفه إلى غير ذلك .
فيكون وعد دكّ الردم هو القيامة في سورة الحاقة : ( وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) .
وفي سورة "طه" أنها تنسف بعد الدك حتى تستوي فلا يبقى فيها مرتفع ولا منخفض :
( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ، فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً ، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً ) .
أما قوله تعالى في "الأنبياء" : ( حتى إذا فُتِحت يأجوج ومأجوج ) فليس فيه أن الردم ينفتح ، بل الانفتاح ليأجوج ومأجوج ، والمعنى كما قلنا في السابق : ( فتحت – قبور – يأجوج وماجوج ) ، كقوله تعالى في سورة يوسف على لسان إخوته لأبيهم : ( واسأل القريةَ التي كنا فيها والعِيرَ التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون ) أي أهلهما .
فالقريةُ والعيرُ لا يسألان ، لأن الأول بلدة والثاني حيوان .
وهذا أسلوب بلاغي شائع في لغة العرب .
ولو دُكّ الردم على يأجوج ومأجوج ، على فرض أنهم موجودون تحته أو خلفه كما تزعم الأسطورة ، لقُتلوا جميعا ، وهو ما لم ينتبه له الواقعون في التخريف .
خلاصة القول :
مصير الردم هو الدك والنسف في كتاب الله تعالى ، وذلك يوم القيامة كما تقدم ، وكل خبر عن حدوث فتحات فيه كذب على الله ورسوله .
والزعم بأن الردم قد انهار واندك قديما ، وأن آثاره موجودة في بعض مناطق جورجيا غلط آخر وقع فيه بعض المعاصرين فرارا من خرافة خروج يأجوج ومأجوج .
فالذي نراه أن الردم غطته الرواسب حتى صار جزءا من الجبلين المحيطين به ، وقد يكتشف في مستقبل البشرية أو يبقى مجهولا ، وميلنا لاكتشافه أقوى لقوله تعالى في سورة " فصلت " :
( سَنُرِيهِم آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) .
فلا شك بعد هذه الآية أن تنكشف أخبار القرآن المتعلقة بالكونيات للبشرية قبل القيامة .00
تأويل رؤيا رسول الله في حديث المقال :
نص الحديث صريح في أن فتح الردم كان مناما رمزيا لا حدثا حسيا ، فما تأويل الحديث ؟
نجد تأويله في السنة النبوية أيضا ، وهو ما لم يفعله شراحه المغترون بأساطير الوضاعين والزنادقة :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، مِنْ فِتْنَةٍ عَمْيَاءَ صَمَّاءَ بَكْمَاءَ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَيْلٌ لِلسَّاعِي فِيهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (الفتن لنعيم بن حماد ح 467 ، ومصنف ابن أبي شيبة 7/463 ، وصحيح ابن حبان 15/98 )
وعنه : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، يَبِيعُ قَوْمٌ دِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ، الْمُتَمَسِّكُ يَوْمَئِذٍ بِدِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ - أَوْ قَالَ: عَلَى الشَّوْكِ - "، قَالَ حَسَنٌ فِي حَدِيثِهِ: " خَبَطِ الشَّوْكِ " ( أحمد ح 9073 )
في رواية مختصرة بإسناد صحيح على شرط الشيخين: " وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ أَمْرٍ قَدِ اقْتَرَبَ، أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ " ( مصنف ابن أبي شيبة 7/463 ، ومسند أحمد ح 9691 وسنن أبي داود 4249 وشرح مشكل الآثار للطحاوي 6/66 ، ومستدرك الحاكم 1/190 و4/486 )
وصححه الحاكم على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي .
وفي حديث آخر : " وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، يَنْقُصُ الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: " الْقَتْلُ " (مسند أحمد ح 10926 و10984 وشرح مشكل الآثار للطحاوي 1/288 )
فظهر من خلال هذه الأحاديث المبتدأة بجملة : " ويل للعرب من شر قد اقترب " كما بُدئ حديث مولاتنا زينب بنت جحش ، أن الرؤيا التي أفزعت النبي صلى الله عليه وسلم ، ورأى فيها انفتاح ردم يأجوج وماجوج قدر الدرهم ، إنما تعبيرها هو الهرج والاقتتال الذي سيحدث في أمة الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفتنة سيدنا عثمان ثم حروب الجمل وصفين إلى دولة بني العباس كان وقودها الصحابة والتابعون العرب ، ونجا منها المسلمون العجم إلا من كان من الموالي ، وهم قليل وتابع .
لذلك جاء التعبير النبوي " ويل للعرب " ، وليس : " ويل للمسلمين " ، لأن فتن القرن الأول من الهجرة كانت عربية خالصة ، بين الصحابة أولا ، ثم بين التابعين من العرب ثانيا .
ولم يخرج على المسلمين في تلك الفتن العمياء الصماء التي أدت لانشطار الأمة أفقيا وعموديا ، دينا وسياسة ، أي واحد من شعب يأجوج ومأجوج ، ولم يُسمع أن ردما انفتح فانسابت جحافل مخلوقات أسطورية تغزو بلاد المسلمين وتطاردهم إلى جبل الطور ، قُدسِ أقداس اليهود .
ثم إن : " شر قد اقترب " أكثر وضوحا في أن الفتنة التي أفزعت رسول الله قريبة من عصره ، وهو ما ينطبق على فتن الصحابة والتابعين .
ونحن جئنا بعده صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربعمئة وألف سنة ، ولم يخرج قبلنا يأجوج ومأجوج ، والمرحلة الزمنية الفاصلة لنا عن زمن النبوة طويلة ممتدة جدا ، فلا جرم أنه عليه السلام نُبِّئَ في تلك الرؤيا بالفتن التي عصفت بالصحابة والتابعين .
والاعتراض علينا بقوله تعالى : ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) مردود من وجهين :
الأول : الاصطلاح القرآني غير الأسلوب الحديثي ، فلا يساوي لفظُ القرب في الأحاديثِ اللفظَ ذاته في كتاب الله .
الثاني : المسلمون اليوم ومستقبلا في العجم أكثر ، والحديث صريح في أن الشرّ محصور في "العرب" ، فيجب حمل الفتنة المعبّر عنها برؤيا فتح ردم ياجوج وماجوج على ما حدث في القرن الأول .
وهذا ما فهمه كبار الصحابة ، فحملوا الفتنة المذكورة في روايات أبي هريرة على فتنة سيدنا عثمان الشهيد:
عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ عِنْدَ فِتْنَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ المَاشِي وَالْمَاشِي، خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي " قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي، فَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ لِيَقْتُلَنِي؟ قَالَ: " كُنْ كَابْنِ آدَمَ " ( مسند أحمد ح 1609 وسنن الترمذي ح 2194 ومستدرك الحاكم 4/488 بإسناد صحيح )
تناقض المؤمنين بالأسطورة اليأجموجية :
يزعم المصدقون بتلك الخرافة المكذوبة أن أبطالها المسجونين تحت الردم ينقبونه ويحفرونه كلّ يوم ، وعند الغروب يتواعدون على استكمال التنقيب والحفر في اليوم الموالي ، ثم يصبحون وقد عاد الردم كما كان لا أثر لأي حفر فيه لأنهم لا يقولون : إن شاء الله .
ونسي أو تجاهل المصدقون أن ياجوج وماجوج مفسدون مشركون أو ملحدون ، بحيث لا يعرفون لمشيئة الله خبرا .
وتفسيرهم لحديث : " فتح من ردم يأجوج ... " بأن الردم قد فُتح حسا وواقعا زمن النبوة ، ينقض أخذهم بظاهر الحديث الخرافي المشكّل لأسطورتهم .
فتأويلهم لحديث الصحيحين عن السيدة زينب بأن الفتح المادي موجود ويتّسع ، يعارضه قولهم بأن ما يحفره يأجوج ومأجوج يلتئم كل يوم .
والقوم لشدة ولعهم بالأساطير ، وصريح استسلامهم أمام الروايات التي ظاهرها الصحة وباطنها الاختلاق والكذب ، لا مشكلة لديهم مع الجمع بين المتناقضات الفاحشات ، إلا من رحم رب الأرض والسموات .
ومما يحملهم على ذلك ، خشيتهم من انهيار سقف الأسطورة على قلوبهم وعقولهم كالصاعقة .
فلو أقرّوا بالتناقض ، لوجب عليهم ترجيح حديث " ويل للعرب ... " جريا على قاعدة تقديم الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم على ما انفرد به أحدهما أو رواه غيرهما .
ولو رجّحوه لزمهم موافقتنا في تكذيب الأسطورة اليأجوجية المفصلة في الأحاديث المرجوحة المضعّفة .
ولو فعلوا لفقدوا طعم تخيل تفاصيلها العجيبة الغريبة الكئيبة .
فليتمسكوا بالمتناقضات ، حتى تتوالى اللّذّات ، فنرجو لهم المغفرة والرحمات .
رواية أبي هريرة المُدلَّسَة المحرَّفة المضطربة :
قال وُهَيْبٌ بن خالد: حَدَّثَنَا عبد الله بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «فَتَحَ اللَّهُ – في لفظ : فُتح اليوم - مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلَ هَذَا وَعَقَدَ بِيَدِهِ تِسْعِينَ» ( مصنف ابن أبي شيبة 7/465 ، ومسند ابن راهويه ح 531 ، ومسند أحمد ح 8501 و10852، وصحيح البخاري ح 3347 وصحيح مسلم 3 - (2881) )
وفي صحيح البخاري ح 7136 : «يُفْتَحُ الرَّدْمُ، رَدْمُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، مِثْلُ هَذِهِ وَعَقَدَ وُهَيْبٌ تِسْعِينَ» .
هذه الرواية محرفة مبتورة من سياقها ، حيث تم حذف الظرف الزمني الذي قال النبي الحديث في سياقه ، وهو الاستيقاظ من النوم فزعا ، فأوهمت أن الفتح تمّ حقيقة لا في المنام .
ثم إنها رواية مرسلَة مدلَّسة ، فمن ذكاء أبي هريرة رحمه الله أنه كان يدلّس / يرسِل الأحاديث الذي لم يسمعها بنفسه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن هنا كثرت أحاديثه مقارنة بمن هم أقدم صحبة وأعلم وأحفظ منه ، إضافة إلى أسباب أخر .
فكان يمارس التدليس الذي سماه المحدثون الإرسال تأدبا مع صغار الصحابة ومتأخريهم إسلاما ، وخشية تطرق التهمة إليهم .
فلا يقول : " سمعت رسول الله " فيقع في الكذب الصريح ، بل يقول : " عن رسول الله كذا " أو " أن رسول الله كذا " أو " قال رسول الله كذا " ، فيظن السامع لأبي هريرة مثلا ، أو القارئ له اليوم ، أنه سمع بنفسه ورأى بناء على صحبته .
وهذه مسائل دقيقة يعرفها المختصون جيدا ، لكنهم يتسترون عليها خشية انهيار المذهب ، متناسين أنهم بذلك يفسدون الدين والدنيا ، إذ العدل والصرامة مع الصحابة أولى ، فالانخداع بهم أكثر وأشد ضررا على الدين .
إن أم المؤمنين زينب بنت جحش هي التي سمعت رسول الله زوجها يقول بعدما استيقظ من النوم : " ويل للعرب ... " ، وكانت أم المؤمنين حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها أمينة فأسندته متصلا ، ولم ترسله على طريقة أبي هريرة الذي أسلم بعد السنة السابعة ، أي قبل وفاة رسول الله بثلاث سنين .
سيزعم المحافظون أن النبي قال الحديث مرتين ، سمعته في الأولى سيدتنا وأمنا زينب ، وفي الثانية أبو هريرة .
والجواب المختصر : هذا كلام فارغ ، فهناك من هم أولى بسماعه منه ، وعدم تصريحه بالسماع يقضي على أي أمل في هذا الجمع التلفيقي ، لأن تدليسه أمر ثابت ، فإنه روى أحداثا من السيرة وقعت قبل إسلامه ، بل قبل الهجرة .
وقصته في حديث الفضل بن العباس بعد موت الفضل ، تكشف للمنصف المبدئي طينة أبي هريرة في الرواية وجراءته على التدليس ، فلا جرم اتهمه بعض الصحابة والتابعين لإكثاره حتى ضجّ من ذلك وشكا .
ومن جهة ثالثة ، فروايات حديث أبي هريرة مضطربة :
فصيغة : " فتَح الله " تعني أن ذلك وقع في الماضي ، وأن الفاتح هو الله جلّ جلاله .
وصيغة " فُتِح اليوم " مبني للمجهول ، يطابق أسطورة القوم القائلة بأن " يأجموج " يحفرون كل يوم .
وعبارة " يُفتح الردم " ، دالة على المستقبل القريب أو البعيد ، فتخدم الأسطورة .
وعلة هذا الحديث هو راويه المتفرد به : وهيب بن خالد ، فقد أورده الحافظ العلائي في المختلطين ، وتبعه برهان الدين الحلبي في الاغتباط .
وفي تقريب التهذيب (ص: 586) لابن حجر : وهيب بالتصغير ابن خالد ابن عجلان الباهلي مولاهم أبو بكر البصري ثقة ثبت ، لكنه تغير قليلا بأخرة . هـ
قلت : هو ثقة ما لم يضطرب ويتناقض في الحديث الواحد ، أو يقع في البتر والتحريف ، أو يخالف من هم أوثق منه .
وأمام هذا التناقض والاضطراب ، ثم التدليس والبتر من السياق ، لا يسعنا إلا التشطيب على الحديث من رواية أبي هريرة وإن كان متفقا عليه ، فنحن لا نتفق مع الشيخين رحمهما الله بعد كل هذه الملاحظات والعلل .
الرواية الموضوعة عن عائشة أم المؤمنين:
روى الطبراني في المعجم الكبير للطبراني (23/416) من طريق يَحْيَى بْن حَمْزَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدٍ الْأَيْلِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ رُومَانَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: كَانَ عِنْدِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَاسْتَيْقَظَ وَعَيْنَاهُ مُحْمَرَّتَانِ، فَقَالَ فَانْفَضَّ رَأْسُهُ: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ» فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «فُتِحَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ» ، وَعَقَدَ عَشْرَةً، قَالَتْ: لَا أَدْرِي أَمِثْلَ الْحَلْقَةِ أَوْ مِثْلَ الْأُنْمُلَةِ قُلْتُ: أَتَخَافُ عَلَيْنَا يَا رَسُولَ اللهِ الْهَلَاكَ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» . فَقَالَتْ أُمُّ رُومَانَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَحَدَّثَنِيهِ كَمَا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ .
في إسناده الحكم الأيلي المتروك المتهم بالكذب .
وفي تاريخ أصبهان لأبي نعيم (2/144) من طريق أحْمَد بْن يَحْيى بْنِ حَمْزَةَ , ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانٍ الْعَنْبَرِيُّ , حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمَكِّيُّ , عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ , عَنْ عَائِشَةَ , قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْمَرٌّ وَجْنَتَاهُ , فَقَالَ: وَيْلٌ لِلْعَرَبِ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِمَّا قَدِ اقْتَرَبَ , قَالَتْ: قُلْتُ: مَا ذَاكَ؟ قَالَ: " فُتِحَ الْيَوْمُ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ ذَا وَعَقَدَ بِيَدِهِ عَشَرَةً , قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: إِذَا كَثُرَ الْخُبْثُ " .
إسناده مظلم منكر : أحمد بن يحيى مجهول الحال ، ومحمد بن أبان كما في تاريخ الإسلام للذهبي ت بشار (5/172) : مُنْكَر الحديث.
وعمرو بن قيس ضعيف جدا .
وقد خالفوا الثقات عن الزهري ، فالطريق هذه منكرة .
فلا يصح عن أم المؤمنين عائشة شيء من هذا الحديث .
خلاصات المقال :
أولا : حديث " ويل للعرب " لا علاقة له بتفاصيل أسطورة يأجوج ومأجوج ، فلا يدل على وجودهم ولا على خروجهم بالطريقة المعهودة في الأذهان بأي وجه .
ثانيا : الفتح الذي رآه النبي عليه السلام في الردم ، تم مناما لا حسا وواقعا ، فلا يحتج بالحديث على حدوث أي فتح في الردم .
ثالثا : الفتح المنامي رمز للفتن التي عصفت بالصحابة والتابعين أيام عثمان وعلي رضي الله عنهما .
رابعا : لا يصح في الباب غير حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش ، ورواية أبي هريرة محرَّفة ومضطربة متنا ، مدلّسة سندا ، تفرّد بها راو طرأ عليه الاختلاط حتى اضطرب فيه .
أما حديث أم المؤمنين عائشة فمنكر من طريقيه .
والحمد لله رب العالمين.
*خريج دار الحديث الحسنية