بقلم : ذ/ عبد الله لعماري
محام، عضو الأمانة العامة لحزب النهضة والفضيلة
كواحد من الفاعلين الذين ساهموا في تحويل وجهة الحركة الإسلامية نحو المشروع الذي أفضى إلى إنتاج حزب العدالة والتنمية، بعد الانشقاق عن الشبيبة الإسلامية وتأسيس الجماعة الإسلامية سنة 1981؛ وكأحد الثلاتة القياديين ضمن رجالات هذا المشروع الذين انتزعوا من قلب القيادة الوطنية، وأخذوا رهائن من تنظيم الجماعة الإسلامية، ليمكثوا عشر سنوات في غياهيب السجون بعد أن زج بهم الحكم في المحاكمة السياسية الأولى للإسلاميين، سنة 1984؛ أجد نفسي مدفوعا بهذا العطاء العمري الذي فديت به هذا البناء، المتراكب الآن من تراكمات نصف قرن من جهود وثضحيات ٱلاف من إخواني وأخواتي من رفاقي في طريق الحركة الإسلامية، أجد لنفسي الحق في أن أستشعر الخطر المحدق، وأن أعلن الرأي في اتجاه التصويب لإنقاد ما يمكن إنقاذه، قبل فوات الأوان.
يعيش المغرب راهنا حالة غير مسبوقة من القلق والتوتر والتجهم، بسبب الوضع غير المسبوق من عطالة الحكومة والبرلمان أو تعطيلهما، نتيجة عجز الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة، عبد الإله بنكيران، عن تشكيل الأغلبية الحكومية، من الأحزاب السياسية المنخرطة في المفاوضات، استدعت أخيرا التدخل الملكي وإعفاء بنكيران من المهمة الموكولة إليه، لإفساح المجال لغيره من الحزب نفسه.
ورغم أن هذا البلوكاج الحكومي، كان نتاج عرقلة جماعية من أطراف ظاهرة وخفية، من بينها الرئيس المعين نفسه، يتحملون من خلاله جماعيا مسؤولية إجهاض الإقلاع الديموقراطي للمغرب، فإن المسؤولية الوحيدة التي ستبقى عالقة في ذاكرة التاريخ ، إذا ما انقلبت الأمور إلى عواقب وخيمة، هي مسؤولية الرئيس المكلف: بنكيران، وحزبه الفائز انتخابيا: حزب العدالة والتنمية، والذي ستعلق على كاهله وحده، أوزار هذا الانحباس وما سيترتب عنه من كوارث وأعطاب، عندما سيستفيق الشعب فيكتشف الخرائب التي خلفتها غيبة الحكومة، ورقدة البرلمان، ولأن سيف الواقع لا يرحم الضعيف والصريع والمنهزم.
إنه لم يعد خافيا على أحد، أن الأسباب الثاوية وراء هذا الواقع السياسي المأزوم، هو الحساسية البالغة التي أثارتها القفزة الصاروخية للحركة الإسلامية على مستوى الحضور السياسي المتجلي في الغلبة الانتخابية للرقم الإسلامي، بالشكل الذي ألهب ضغينة الأطراف السياسية المتنافسة، وأثار حفيظة الجهات النافذة والسائدة في البلاد؛ فقد باتت مواقع النفوذ الاقتصادي والاجتماعي في مرمى هذا الزحف الانتخابي الإسلامي المتصاعد.
ناهيك عن أن العيون الغربية لا تنظر على الدوام بعين الرضا والقبول لكل صعود ذو ملامح إسلامية، حتى ولو كانت ناعمة، نظرا لاستمرارية الصراع التاريخي الحضاري بين الغرب والعالم العربي والإسلامي.
ولما كان العالم قرية واحدة، والمصالح متداخلة بين الوطني والدولي، فقد يصبح الرقم الإسلامي المتغلب، طامة على البلاد، ومجلبة لكثير من التعقيدات والصعوبات في علاقة المغرب مع محيطه الدولي الغربي ، ما لم يعبر هذا الرقم الإسلامي على قابليته في الاندماج وقدرته على التطمين، بالمرونة والتساهل والتجاوز.
وهذا هو الامتحان الذي سقطت فيه وتسقط كثير من التجارب السياسية للحركة الإسلامية في العالم العربي، بما فيها تجربة حزب العدالة والتنمية على المسرح السياسي المغربي.
إن الآفة العظمى التي أوردت وتورد جماعات وأحزاب الحركة الإسلامية في التاريخ المعاش، مصير المهالك المدمرة، والمحارق القاتلة المبيدة، هذه الآفة هي الشعور بالقوة، والغرور والتبختر بهذا الشعور، بين الفرقاء والشركاء والخصماء السياسيين والاجتماعيين والإيديولوجيين، في معاكسة سافرة للتوجيه الإلهي القرآني: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) الفرقان، وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) الإسراء.
هذه القوة التي تكتسبها الحركة الإسلامية من عواطف الناس الدينية والأخلاقية، التي تنقاد للخطاب الروحي، وتنجذب للتذكير بالحنين إلى الأمجاد التاريخية الإسلامية، فتجنيها الأحزاب السياسية الإسلامية أحجاما من الولاء العارم في صناديق اقتراع المحطات الانتخابية، أو تحشدها تنظيمات مؤتلفة في ظلال المساجد والروابط والمواعظ.
وتكاد تكون هذه القوة التي تحوزها الحركة الإسلامية في المضامير الانتخابية، لعنة على أصحابها الفائزين، كما أنه تكاد تكون القوة التنظيمية التي تحرزها الحركة الإسلامية ويعجز عن اكتسابها الآخرون، وبالا على الإسلاميين.
لكن هذه اللعنة وذلك الوبال، لا يكون ولا يحل بديار الإسلاميين إلا عندما يفقدون القدرة على تصريف انتصاراتهم الانتخابية أو التنظيمية الميدانية في اتجاه التشارك مع الأطراف المنافسة، والتقاسم التعاوني مع الخصوم والفرقاء لامتيازات النفوذ في الساحة السياسية، ويستأثرون وحدهم بما أفاضه عليهم ، صندوق الاقتراع، فيتحول منطق أنا أو الطوفان هو الطوفان بعينه، وتصبح عقلية المنقذ من الضلال هو الضلال بذاته. وتنقلب المنهجية الديموقراطية إلى كابوس مضجر.
وفي مصر الشقيقة عاشت حركة الإخوان المسلمين مذابح أليمة مرتين، بسبب هذه القوة التي تحولت إلى شؤم، عندما تخلف الرأي المتمكن من احتواء الخصومات، والمحبط للمؤامرات، فقد كان جمال عبد الناصر منتوجا إخوانيا صرفا، وكان هو الضابط العسكري الثاني الذي ضمه حسن البنا شخصيا إلى التنظيم السري الخاص، بعد الضابط العسكري الأول أنور السادات، والذي افتتح بهما حسن البنا تشكيل الضباط الأحرار، ثم ولما انتصرت ثورة 23 يوليو بمشاركة واسعة للإخوان وقيادة لجمال عبد الناصر ورفاقه، كان الشعور بالقوة والرغبة في الإشراف السياسي وعدم استيعاب القيادة السياسية للحاكم الجديد والذي هو منهم وإليهم وترعرع في صفوفهم، كان ذلك سببا في تدمير الحاكم الجديد عبد الناصر وتحويله إلى عدو لدود لهم سفاك لدماءهم ومحارب للحركة الإسلامية ومنفذ للمخططات العدوانية الغربية ضدها.
ولما انتصرت مرة أخرى ثورة 25 يناير الشعبية، وحملت صناديق الاقتراع الإخوان المسلمين إلى أعالي سدة الحكم، كان الشعور بالقوة والتشبث بالامتياز الديموقراطي والذي هو في كامل المشروعية، كان معميا للإخوان عن رؤية الضرورة الحيوية للقفز على حسابات صناديق الانتخاب، واقتسام العائد والمكتسب الديموقراطي، مع شركاء الثورة الذين لم تسعفهم صناديق الاقتراع، ولأن هذا الاقتسام الطوعي ذو المشروعية الواقعية هو الحصانة المحصنة للجميع من مكر الثورة المضادة.
وحيث أنه لم يكن الأمر كذلك، فقد انهار البناء الديموقراطي، واستبيحت الدماء بالآلاف، بانقلاب العسكر على الديموقراطية، ولا زال المستقبل قاتما.
وفي الجزائر الشقيقة، في بداية التسعينيات، سبحت الحركة الإسلامية ممثلة في جبهة الإنقاذ في بحر من الانتصارات الانتخابية، فإذا بالجزائر كلها تغرق في بحر من الدماء، والسبب دائما هو الشعور بالقوة، وعدم المرونة و عدم استغلال الظرف السياسي بالتعاون مع اليد الممدودة للرئيس الجزائري الشادلي بن جديد الذي تحدى مؤسسته العسكرية وضمن نزاهة الانتخابات التي رفعت الإسلاميين إلى ناطحات السحاب، ثم هوت بهم إلى حضيض الكارثة، وقد كان هذا التعاون المطلوب مع رأس النظام السياسي العسكري كفيلا بنزع فتيل التوتر بين الجيش وجبهة الإنقاذ، وكان كفيلا باحتواء المخاوف الغربية إزاء النفوذ الإسلامي في الجزائر.
وحدها حركة النهضة الإسلامية في تونس، فقهت دروس التاريخ، وفرضت على نفسها القانون الصارم في التراجع إلى الخلف، ورفض سخاء صناديق الاقتراع، وقبلت بالصمت و التواطؤ والتوافق، حالات التزوير عليها في الانتخابات، حتى تتجنب موقع القوة السياسية الأولى في البلاد، واستجابت بمرونة مفرطة لشروط القوى السياسية المضادة لأسلمة الدولة، سواء أكانت من القوى العلمانية، أومن القوى العائدة من النظام البائد، مستندة إلى مرجعية أولوية إنقاذ تونس من ويلات التناحر الداخلي، ومرجعية تضافر الإرادات السياسية المختلفة لتوطيد دعائم هذا الإنفاذ متعففة عن الإغراء الانتخابي القاتل.
وفي المغرب، قفز حزب العدالة والتنمية إلى الصدارة والمقدمة، مستأسدا على باقي الأحزاب السياسية، بعد عشرين سنة ، من الإذن للإسلاميين بولوج المعترك السياسي، والالتحاق بحزب الدكتور الخطيب، بقرار استراتيجي من الملك الحسن الثاني، سنة 1996، الذي كان بصدد الإعداد للمستقبل السياسي للبلاد.
واستفاد الحزب الإسلامي للوصول إلى المرتبة المتقدمة، من عنصرين هامين في المسار السياسي للبلاد: عنصر الحراك الديموقراطي ، وتراكم تضحيات النضال الديموقراطي منذ الاستقلال، والذي قدمت فيه قوى اليسار مئات الشهداء، وعشرات الٱلاف من المعتقلين والمختطفين والمنفيين، في الصراع المرير مع النظام السياسي، إلى أن أصبح صندوق الاقتراع قيمة فاعلة في المجتمع، أفاض خيراته على الحزب الإسلامي، دون ضريبة من قطرة دم منه ، أو معاناة بطش سلطة برجالاته.
والعنصر الثاني هو الغطاء السياسي والديني الذي أفاد به النظام السياسي، الحركة الإسلامية في البلاد، بحيث أن ما يزرعه النظام السياسي في المجتمع من تعبئة دينية وروحية، يحصده الإسلاميون، ويحصدونه وحدهم دون باقي الشركاء.
وإذا كان هذا هو الواقع، وكان الظهور الإسلامي هو من بركات تضحيات اليسار، ومن بركات حماية النظام السياسي، فإن كل استعلاء على القوى السياسية، يسارية كانت، أو يمينية أنجبها النظام من صلبه لحماية الاستقرار، إن هذا الاستعلاء بحجة الاستقواء بالمنهجية الديموقراطية، هو حيف وخروج على فلسفة المنهجية الديموقراطية التي تفترض تقاسم التراكم الديموقراطي،لكونه ثمرة النضال الديموقرطي، لقوى اليسار، وثمرة تدبير الاستقرار في البلاد لقوى اليمين.
وإن تدبير المفاوضات الرامية إلى الخروج بأغلبية سياسية لتشكيل الحكومة، بالشكل الذي كان يستحضر فيه بنكيران منطق حساب الصناديق الانتخابية، وحساب الشخصنة في الصراع، وأسلوب الأبوية السياسية، وبالشكل الذي كان يغفل فيه قراءة الراهن السياسي المغربي، ويتعامى فيه عن التحسب لمراكز القوى في البلاد، وينأى بنفسه عن التجاوب مع النسق السياسي السائد، إن هذا التدبير غير السليم، كان وبالا على الحزب الإسلامي، حال دونه ودون الاستمتاع بفوزه الانتخابي وشكل من حوله جدارا من النفور السياسي، من قبل الأحزاب السياسية التي كتلت اتحادا لعزله اختلط فيه اليمين واليسار.
وإن هذه الحالة العازلة لحزب العدالة والتنمية، إلا من بعض الأصوات التي لاتملك ولا تغني ولا تنفع، قد تهيئ الشروط والمناخ ، للإيقاع بالحزب الإسلامي في التناقضات التي ليست في مصلحته، ومن ثم استدراج الواقع المغربي نحو التحضير لحصار الصوت الإسلامي بكل تجلياته في سبيل تقزيم وتدمير رقمه الصعب.
وإن حزب العدالة والتنمية وقياداته مدعو لإعادة النظر في احتساب القوة ومخاطرها، ونبذ مسلكية الأعناق الطويلة، فالواقع المغربي لا يحتمل علو طرف سياسي على ٱخر، حفاظا على سلامة المصير.