... طبعا، الذي حصل ، من خلال بلاغ الديوان الملكي القاضي بإعفاء عبد الإله بنكيران من تشكيل الحكومة، ليس أمرا سهلا... لكنه أيضا، ليس بالأمر الذي لم يكن منتظرا.منذ مدة، كنا نعرف أن تشكيل الحكومة، أصبح أمرا مستعصيا على بنكيران.
ومنذ مدة... كنا نعرف أن عنوان الاستعصاء، تحكمه شروط ذاتية، متعلقة ببنكيران وحزبه، وبفهمهم الملغز لسياق"النصر" الانتخابي الذي حققوه، على حساب سياق التفاوض.
سياق التفاوض... الذي كان على بنكيران أساسا، أن يستوعبه، بمعطياته المعلنة والمسكوت عنها، من أجل تشكيل وقيادة الحكومة، وبشروط موضوعية، عنوانها بنية النسق السياسي في البلاد، وطبيعة الأحزاب السياسية في علاقاتها الملغزة و"التاريخية" ببنية الحكم وما كان سبق لعبد الرحمن اليوسفي أن أسماه بــ"المركب المصالحي".
الذي حدث منذ مدة، هو أن الكثيرين منا، أصبحوا يعتبرون الشروط الذاتية لبنكيران وحزبه، هي الشروط الموضوعية للبلد، وأنه لا يمكن تصور نقاش أو مطارحات أخرى لسؤال تشكيل الحكومة، خارج خطاب المظلومية والمؤامرة. وهذا إن افترضنا صحته في جانب، لايمكنه بحال أن يلغي باقي المعطيات والأسئلة من جانب آخر.
عموما، ليس الذي يهمني اليوم، استعادة الحديث عن تفاصيل مفاوضات سياسية لتشكيل الحكومة، عشنا فيها ومعها، بعض أغرب حالات العبث في تاريخ البلاد.
الذي يهمني اليوم، هو الوقوف بكثير من التبسيط، عند ردود الفعل السريعة والمتسرعة التي صدرت مباشرة بعد نشر بلاغ الديوان الملكي.
أخطر ما حملته بعض ردود الفعل هذه، هو اعتبار "إبعاد" بنكيران عن تشكيل الحكومة، ضربا للديمقراطية، بمبرر أن الناس، صوتوا على بنكيران...
الأصل في الحكاية، أن هؤلاء الناس، ولكي نكون أكثر دقة، هؤلاء المصوتين، يفترض أنهم صوتوا على حزب ، وليس على شخص بنكيران
والأصل في الحكاية... أن الذي حدث ليلة أمس، من خلال بلاغ الديوان الملكي، هو تفعيل لمضامين الدستور الذي، صوت عليه بنكيران وحزبه، ودعوا المغاربة إلى التصويت له.
...الدستور، الذي اعتبره بنكيران وحزبه، عنوان دولة المؤسسات والاستثناء، والذي "طبلوا" له وبه، بعد أن وصفوا الذين "تسببوا" في ولادته، أي شباب 20 فبراير بــ"الغياطة والطبالة".
الذين يقولون اليوم إن إبعاد بنكيران "ضرب" للديمقراطية، لأن الناس صوتوا على بنكيران، هم أول من يضرب معنى الديمقراطية. الناس يصوتون على حزب، على فكرة، على مشروع وبرنامج.
وتعيين "شخصية" أخرى من حزب البيجيدي، هو أولا، انتصار لمعنى الدستور الذي صوت عليه وصفق له البيجيدي، وهو ثانيا انتصار لمعنى الديمقراطية التي يعتبر البعض أننا نعيشها، من خلال الإصرار على منح الحزب الفائز في الانتخابات، فرصة تشكيل الحكومة.
... الذين يقولون، إن إبعاد بنكيران، وتكليف شخصية أخرى من داخل حزبه، الهدف منه تقسيم الحزب وإضعافه، هم في النهاية، يعودون لنفس الخلط المتعمد، بين الشرط الذاتي والشرط الموضوعي.
تقسيم الحزب، إضعافه، كسره... هي في النهاية، مرادفات لشرط ذاتي لحزب البيجيدي، ووحده البيجيدي، يستطيع التعامل مع هذا الشرط، وتدبيره سواء بقبول الحل المقترح دستوريا الآن، من خلال تعيين شخصية أخرى من داخل الحزب، أو من خلال رفضه، والمطالبة بالعودة لانتخابات جديدة.
في النهاية، نحن هنا أمام شروط موضوعية، لم يعشها البيجيدي وحده. شروط موضوعية، أدت إلى إضعاف أحزاب وإلى فقدان المغربي الثقة في السياسة، وإلى بروز ثقافة سياسية جديدة عنوانها العبث والشعبوية. شروط موضوعية، لم يكن البيجيدي وحده "ضحية" لها... لكنه أيضا، استفاد منها واستغلها.
ونحن... أمام شرط ذاتي لحزب البيجيدي، عليه اليوم فقط، أن يغادر لغات المظلومية والضحية، وأن يعلن صراحة عن مشاركته في البنية السياسية القائمة، بما تعنيه من شروط الربح والخسارة، وفق نسق دستوري، صوت عليه البيجيدي وغيره، دون أن يمتلكوا ولو مجرد "نية" لخلخلة هذا النسق في اتجاه الدفع به، نحو الإجابة على سؤال جوهر الدولة والسلطة، عوض الاكتفاء بإعادة مقاربة وصياغة جواب الشكل. شكل الدولة وشكل السلطة.
الذي حدث ليلة أمس، هو في النهاية، وتماشيا ــ للتذكير مرة أخرى ــ مع الدستور الذي أراده البيجيدي وغيره من الأحزاب، هو مجرد تفعيل تقني لذات الدستور
الذي حدث... يقول لنا ببساطة:
من كان يعبد بنكيران، فإن بنكيران قد انتهى
ومن كان يؤمن بالدستور الذي صوت عليه بنكيران وحزبه ... فإن الدستور لازال حيا.