ألاحظ كثيراً عذاب ومعاناة العقل المغربي وهو يتمزق ويريد أن يقتنع بهذا وذاك في الوقت نفسه، حتى ولو أنهما في الواقع من الأشياء المتناقضة؛ فأراه مرة يميل إلى اليمين، ومرة إلى الشِّمال، ومرة يتجه أماما إلى "الصراط المستقيم"، ومرة يرجع إلى الوراء خوفاً من الانفتاح. ومن ثمّ، يبقى واقفاً في مكانه بعيداً عن ما وصلت إليه الحضارة الفكرية نادماً على تأخره بدون وعي منه بأنه السبب في مشكلته وليس قطار حداثة الفكر والذي ما زال يحاول أن يركبه ويُركِب معه "اليمين واليسار والمستقيم"؛ ولكن قطار الحضارة لا يقبل السفر بتذكرة "المُتناقضات".
وباختصار، فإن المغربي يريد أن يوفق بين الديمقراطية وبين الدين. ولهذا، يجد نفسه في العسر محصوراً مألوماً؛ لأنه قد رُسِّخ في ذهنه، منذ صغره، أن الدين هو دستور الله. ولهذا، يرفض الديمقراطية المصطنعة من الإنسان! وهذه هي الخطيئة الكبرى التي جعلت من المغربي يحاول تحويل الدين إلى تيار سياسي ديمقراطي.
فلماذا يفكر المغربي بهذا الشكل المتناقض والمتراجع؟
1- اعتبار الدين دستوراً: لا أدري من أين أتى هذا المفهوم؛ فلا نجد في أي كتاب سماوي يصف نفسه بالدستوري أو بالديمقراطي، لأن هذه المفاهيم السياسية من صنع بشري. أما الدين فهو من صنع إلهي، ومهما كانت أهدافهما تلتقيان في خدمة المجتمع والإنسانية؛ إلا أن لكل منهما أهدافاً مختلفة وخصوصيات مميزة. فمثلا بإمكان أيّ دين كان أن يعيش بسلم مع بقية المعتقدات في وسط ديمقراطي. ونرى بالفعل حرية الفكر والعقيدة قائمة في الدول ذات النظم الديمقراطية؛ ولكن ليس بإمكان الديمقراطية أن تعيش في وسط سلطوي ديني، لأن اختلاف الفكر والعقيدة غير مقبول من القائمين عليها. ونرى بوضوح أن الدول التي تطغى عليها الصبغة الدينية السلطوية لا تعترف بالتنوع الديني والمذهبي، وبالتالي تعيش خارج زمن الحداثة وفي صدام مع بقية العالم.
2- "كُلْشِي كايْنْ ومْذْكورْ في كتاب الله": بطبيعة الحال، نجد بشكل تام في كُتب الله كل شيء يتعلق بالروحانيات والعلاقات الاجتماعية وخدمة المجتمع والحب والسلام والتعايش باحترام. كما نجد كذلك الشعائر والأحكام التي تتغير مع تغيير الزمان والمكان وتطور المجتمع وتتجدد مع تعاقب الرسالات المتتالية وتلك سنة الله في خلقه؛ لكن مع الأسف الشديد يتعلم المغربي أن دينه أحسن الديانات ولو طُبق كتاب الله فسوف يعيش العالم في ضل ديمقراطية إلهية وينعم بالعدل والسلم والأمان. وبما أنه دين، ومن العسر أن يجتمع جميع البشر على الإيمان به؛ فدُرِّست له عندئذ فكرة المؤامرة التي تمنع تطبيق كتاب الله، وزُرعت بهذا فكر كراهية الغرب وكراهية كل من له معتقدات أو أفكار مخالفة لتصوراته العقائدية. ومن هنا، تم توليد الأفكار المتطرفة والتعصبية في السعي إلى تطبيق الكتاب بالقوة والعدوان مع اعتبار ذلك عين الإرادة الإلهية.
3-"هَدَ هُوَ الإيمان وإلَ بْقيتْ تْبْحْثْ وتْفْكّْرْ بْزّافْ غَدي تْوْليّ مُشْرِكْ بالله": غياب الفكر التحليلي في التعليم والتساؤل في كل الأمور هو سبب تخلف فكر المغربي، الذي صار يقبل بيُسرٍ التعبئة منذ صغره بأفكار محدودة ويرددها؛ لأن روح النقد لديه مشلولة خوفاً من إرهاب فكرة "غَدِ تْوْليّ مُشرك". ومن ثمّ، يفقد القدرة على التفكير والتعبير عن فكره بكل حرية، ويصبح عاجزاً عن الخروج من سجن قوقعته المظلمة.
4- اعتبار الفلسفة عدوّاً للدّين وممارستها شركاً بالله: كيف للعقل أن يستنير وكيف للفكر أن ينفتح بدون شمس الفلسفة التي تزرع فينا منهاج التفكير والنقد، وتساعدنا على بلوغ شواطئ المعرفة والقناعة، وهي التي تغذي وترسخ جذور الفكر السليم وتواجه رياح كل التيارات الظلامية التي لا تجد بيئة حاضنة أفضل من أوساط المحرومين من نعمتها (الفلسفة). ولهذا، فكل التيارات المتطرفة ترتعد من الفكر الفلسفي وتحاربه بكل قوتهه.
فما دام الفرد يؤمن بأن الدين دستور سياسي فسيبقى منغلقاً في قوقعة التأخر بفكر متطرف ومنفجر في جميع الاتجاهات، ولن يجد الاستقرار إلا في خيارين؛ إما الانغماس في مستنقعات التعصب، أو الابتعاد عن الدين كل البعد كما وقع من قبل بالدول الأوروبية حين كانت تمارس الكنيسة ما يمارس حالياً في مجتمعاتنا باسم الدين من استغلال واستبداد وتسلط على الحقوق والحريات.
*طبيب ومحلل نفساني