المجال التداولي الأول لكلمة "انتصار" هو الحرب، وقد تُنقل مَجازا، أي ادعاء ومبالغة ، إلى مجالات أخرى يسودُها التنافس والتسابق، أو توهُّما كما في التنافس السياسي، وهذا ما يهمنا في هذا السياق. والتوهم انخداع يتحول إلى توهيم وتغليط حين ينطلق من سيكولوجية استعلائية على نحو تلك التي صاغها سيد قطب: الاستعلاء بالدين والعزلة العاطفية. ففي هذه السيكولوجية يتحول كل مخالف للدِّنسيين إلى عدو يستحق البـَراءَ وإعلانَ الحرب، والحرب خدعة، انتصار أو هزيمة. لفظ "الانتصار" يُـلبـي هذه السيكولوجية ويُشبعها، فهو يتعدى بحرف الاستيلاء والهيمنة "على"، فيقال: "علاه بالسيف"، أي هوى عليه فقتله.
الانتصار يتضمن كل "تبعات الحرب"، كلُّ ما تحملُه ذاكرتُها: القتل والأسْر، ومطاردة الفلول الهاربة، وسبي النساء والأطفال واستعبادهم ، وتحميل المنهزم تكاليف الحرب وجزاءاتها، ومنعه من التسلح حتى لا يعود إلى المنازعة...الخ. هذه هي الذاكرة القديمة الحديثة التي يَصدُرُ عنها من يتلمظون بلفظ "الانتصار" من سياسيين وصحفيين مموالين. وخطاب الانتصار موجه أساسا للأنصار قصد حشدهم وتحميسهم وإبعادهم عن منطق النسبية السياسية، ولذلك تكون هذه الأجواء الحماسية مصحوبة بعبارات التكبير التي يرفعها "المجاهدون" في ساحة المعركة، والدنسيون في قاعات الاجتماعات ومدرجات الجامعات.
اللفظ المقابل لِـ"لانتصار" في مجال التنافس هو "الفوز". وهو يَتعدى بِـ"الباء" التي تفيد الاستعانة: فاز الحزب الأول "بِ 123 مقعدا"، وفاز الثاني "بِ 103، والثالث "بِ...".....الخ. بين حرف الاستعلاء ("على") وحرف الخفض ("بِ") - الذي يفيد تقاسم الأصوات - ما بين الحرب والسلم. فالانتصار يستهدف "العدو" لإلغائه، والفوز يتوجه إلى الموضوع لاقتسامه، من خلال تحكيمه. الموضوع هو أصوات الناخبين، والمحكم هم الناخبون. الناخبون لم يعتبروا أنفسهم في حرب، ولذلك صوت بعضُهم وامتنع البعض، والذين صوتوا توزعوا بين عدة اختيارات، وليس بين اختيارين متنافيين: إن وجد أحدهما انعدم الآخر، كما تريد كلمة انتصار.
الانتصار يقتضي ضرورةً وُجود طرفين مُفردين أو مُركَّبين (بين حِلفين)، والفوز يسمح بتعدد الفائزين حيث يُرتَّبون من واحد إلى ما لا نهاية، الانتصار يقتضي إلغاء الآخر (ولذلك طلب السيد بنكيران من حزب البام حَلَّ نفسه بعد الانتخابات الأخيرة حتى ولو جاء في الرتبة الثانية، قريبا من البيجيدي، مُضاعِفا رصيدَه من المقاعد ثلاث مرات)، والفوز لا يستبعد العمل مع الآخر، بل يتوقع أن يتبادل معه المواقع في انتخابات مقبلة. وهذا ممارس في مجال الرياضة، حيث تجري تصفيات فيها ذهاب وإياب. استعمال لفظ الانتصار يتناقض مع استعمال لفظ "التدافع" الذي يردده الدِّينْسِيون قبل يذوقوا لذه المقاعد (الدينسية نحتٌ من كلمتي "دين "و"سياسة"، وهي كلمة محايدة تقابل كلمة علمانية، أي الفصل بين الدين والسياسة).
أما بعد،
عندما سمعتُ السيد عبد الإله بنكيـران يتلمَّظُ بكلمة انتصار في اجتماع المجلس الوطني لحزبه، والحماس يلهب مشاعر الجمهور المتابع لخطابه، وأصداء التكبير تغلف المكان علمتُ أنه سيتجرع مرارة الهزيمة، وصرحت بذلك لبعض الأصدقاء، وسجلت في ذلك كلاما. وما هي إلا أسابيع حتى سمعتُه يتحدث عن من يريد تحويل انتصاره إلى هزيمة، وتردد نفس التعبير في الصحيفة المساندة للتوجه.
يقول المغاربة: "اللي فراس الجمل فراس الجمال، أو الجمالة". ما لم يحصل عليه الحزب في الانتخابات - وهو الأغلبية المطلقة 51% - أراد تحصيله بتوظيف كلمة انتصار، التي تعني طرفين فقط: مُنتصرٌ ومنكسر (منهزم). وبالقفز إلى هذه الثنائية صار الخطيب يتحدث عن "نحن" و"هم"، عن الذين انتصروا بالسر الإلهي حتى وهم ليسوا عباقرة، كما قال، والذين انهزموا، بالتالي، لغياب هذا السر. يتحدث عن الفاسدين الذين يحاربون نظافة اليد. وبهذا انغلقت دائرة المغالطة في خطوتين:
1- الخطوة الأولى: تحويل الصراع من مواجهة بين أطراف عديدة (أكثر من ثلاثين حزبا)، إلى حرب بين البيجيدي والبام، وبهذه الثنائية صار الحديثُ عن الانتصار ممكنا شكليا. فالأحزاب الأخرى اختفت في الغبار. وفعلا أدى الاستقطاب المصطنع الذي ساهمت فيه عناصر من الجهاز القديم إلى تضرر باقي الأحزاب التي كان لها حضور واعتبار. وهذه الخدعة أحس بها شباط بعمق وعبر عنها قبل أن يغير الاتجاه نحو مصدرها.
2 - الخطوة الثانية: بعدَ ترسيخ الشعور بانتصار البيجيدي – أو اعتقاد ذلك - بدأت عمليةُ توسيع المفهوم ليكون انتصارا على الجميع. وهنا عمت لغةُ التفويض الشعبي والتأييد الإلهي، وصار كل من لا ينصاع للمنتصر متنكرا لحكم الصناديق التي نصرت الحزب، بل متنكرا للديمقراطية. ومن يتتبع خطب الرئيس المعين يلاحظ الانتقال من وضع البيجيدي في مواجهة مع البام إلى جعله بديلا للجميع!
وفي هذا الامتداد المغالط تولد مصطلح البلوكاج الذي ظل أحد الصحفيين البارزين يلوكه، فهو بديل للحديث عن الفشل في تدبير ملف تكوين الحكومة. هذه المغالطة لم تجز على أحد، والدليل على ذلك بيان الديوان الملكي الذي أزاح الرئيس المكلف بسبب فشله، والدليل على ذلك، أيضا، الارتياح الذي عبر عنه الكثير من المعلقين في صفحات التواصل الاجتماعي.
الهروب من الحصيلة
الحديث عن الانتصار هو المرحلة الثانية من عملية الهروب من حصيلة الحكومة التي لم تكن مرضية، هو مرحلة هجوم سبقتها مرحلة تبريئ الذمة. بدأت عملية الهروب إلى الأمام بالتصريحات المتكررة للسيد رئيس الحكومة بأن من يحكم المغرب هو الملك، وهو مجرد مساعد منفذ. وجاءت مرحلة الهجوم بتحويل الانتخابات إلى حرب بين البام والبيجيدي.
الحديث عن الانتصار في مجال السياسة غير ممكن في مجال تقديم المشاريع والبرامج والدفاع عنها، غير ممكن بين الأحزاب، ولكنه ممكن في الحديث عن المنجزات وتحقيق الوعود الانتخابية. كان المطلوب من رئيس الحكومة أن يخبرنا عن انتصاره على البطالة والفقر والمرض...الخ، فالانتصار على هذه الآفات ومطاردتها في السهول والجبال وهوامش المدن للقضاء عليها واتخاذ الاحتياطات لعدم عودتها هو المطلوب من الحكومة. لو تحدث رئيس الحكومة عن الانتصار على الأوبئة – مثل السل والإشمانيوز اللذين عادا للتعشيش في بعض البيئات المغربية - لصفقنا له.
أنا شخصيا كنت أنتظر من حكومة يقودها حزب يدعي أن له مرجعية إسلامية أن تشن الحرب على الاستيلاء على الأملاك العمومية، ولكنها لم تفعل شيئا في الموضوع. كنت أنتظر منها تُفعِّل قوانين تخدم صحة المواطنين وعلى رأسها منع التدخين في الأماكن العمومية، لم تفعل شيئا، بل عملت كل ما يخدم ميزانيتها على حساب صحة المواطنين...الخ. كنت أنتظر منها أن تشن الحرب على التسول، لم تفعل شيئا. كنت أنتظر من هذه الحكومة أن تحارب الريع المكشوف فاندمجت فيه، وصار الواحد منها يجمع بين العديد من المهام ويراكم التعويضات. هذا هو الانتصار الممكن في المجال السياسي. كفى من التجييش بالحديث عن الانتصار والاستعداد للموت. نحن لسنا في حاجة لأرواحكم، بل في حاجة لعقولكم وقلوبكم.