عندما يقول الله تعالى في كتابه العزيز: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"1 فهو بذلك يقطع الطريق على كل متنطع أو مشتبه يقول بتحريف القرآن بالزيادة فيه أو النقص منه..
وقد تستساغ بعض الإتهامات والتشكيكات الصادرة عن بعض الدوائر الدينية أو الإلحادية خارج الإسلام، فتكون حافزا لإعادة قراءة النص القرآني والتحقيق في تفاسيره وأسباب نزوله وسياق خطاباته للرد على هؤلاء. لكن، أن ترفع هذه الإفتراءات من داخل دائرة الإسلام، فتتهم طائفة من المسلمين طائفة أخرى بتحريف القرآن بناءا على نصوص مشتبهة ينفيها كل الأطراف، فذلك مما يجب الوقوف عليه والتحقيق في أسبابه وملابساته لما فيه من التشويش على أهم مصدر للتشريع عند المسلمين، وكذا التشكيك في عقيدتهم وتوسيع رقعة خلافاتهم..
وقد حظي المسلمون الشيعة بنصيب الأسد من هذه الإتهامات الجوفاء، لما ورد في بعض كتبهم وأقوال بعض علمائهم مما يفيد بتحريف القرآن، بالرغم من أن أقوال أئمة آل البيت(ع)المقدمين عندهم، وعدد من مراجعهم المتقدمين والمتأخرين ينفون كل هاته التهم والإفتراءات، ويردون كل تلك النصوص والأقوال المشتبهة، والتي يوجد مثلها في بعض المتون السنية مما سوف نشير إليه في معرض هذا المقال. كما أن علماء الشيعة في الماضي والحاضر لا يحتجون في مذهبهم وكلامهم إلا بهذا القرآن الذي يوجد بين ظهرانينا، وهذه قنواتهم ومواقعهم وكتبهم اليوم لم يعد من الصعب الوصول إليها، لا تقدم أي قرآن آخر غير متفق عليه بين المسلمين.
فمن القدماء، يقول شيخ المحدثين أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين الصدوق ـ المتوفّى سنة 381 هـ في رسالته التي وضعها لبيان معتقدات الشيعة الإمامية: "اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيّه(ص)، هو ما بين الدفتين وهو ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك وعدد سوره على المعروف (114) سورة. ثمّ قال: ومن نسب إلينا إنّا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كذّاب"2.
ويقول الشيخ محمد بن محمد بن النعمان، الملقّب بالمفيد، المتوفّى سنة 413 هـ ، وهو من كبار شيوخ الطائفة: "وقد قال جماعة من أهل الإمامة، إنه لم ينقص من كلمة، ولا من آية، ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين(ع) من تأويله، وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله، وذلك كان ثابتاً منزلاً وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز.. وعندي أنّ هذا القول أشبه من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل، وإليه أميل والله أسأل توفيقه للصواب"3
ومن الجدد، يقول السيد أبو القاسم الخوئي ـ المتوفّى 1413 هـ: "إن حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال، لا يقول به إلاّ من ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل، أو من ألجأه إليه يجب القول به. والحب يعمي ويصم، وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه وخرافته"4، ويقول الشيخ المظفر في كتابه عقائد الإمامية: "نعتقد أن القرآن هو الوحي الإلهي المنزل من االله تعالى على لسان نبيه الأكرم، فيه تبيان كلّ شيء، وهو معجزته الخالدة التي أعجزتْ البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة، وفيما احتوى من حقائق ومعارف عالية، لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف، وهذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي، ومن ادعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه، وكلّهم على غير هدى فإنّه كلام اللّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"5.
أما الروايات التي تفيد بغير ذلك فإنها تحتاج إلى روية وتحقيق للوقوف على وجهتها، وهي بعد أقسام مختلفة منها ما ورد فيه لفظ التحريف، كما روي في الكافي بالإسناد عن علي بن سويد، قال: كتبت إلى أبي الحسن موسى(ع)ـ وهو في الحبس كتاباً ـ وذكر جوابه(ع)، إلى أن قالوا: "اُؤتمنوا على كتاب الله، فحرّفوه وبدّلوه"6 .وهذا التحريف يقصد به حمل الآيات على غير معانيها التي جاءت بها، وتحويلها عن مقاصدها الأصلية، بضروب التفاسير والتأويلات الباطلة، والآراء الفاسدة. وهذا هو السبب في اختلاف مذاهب المسلمين وآرائهم.
ومنها ما يشير إلى أن بعض الآيات المنزلة من القرآن قد ذُكرت فيها أسماء أئمة الشيعة من أهل بيت الرسول (ص)، كما رُوي في الكافي7 عن أبي بصير، عن أبي عبدالله(ع) في قول الله تعالى: (مَن يُطِع الله ورَسُولهُ ـ في ولاية عليّ والأئمة من بعده ـ فقَد فازَ فوزاً عظيما" –سورة الأحزاب-71- وفيه أيضا بموضع آخر8 عن منخّل، عن أبي عبدالله(ع)، قال: «نزل جبرئيل على محمّد(صلى الله عليه وآله)بهذه الآية هكذا: يا أيّها الّذين اُوتُوا الكتاب آمِنوا بما نَزّلنا ـ في علي ـ نوراً مُبيناً" –سورة النساء-47- أو ما رواه العياشي في تفسيره عن مُيسّر، عن أبي جعفر(عليه السلام) ، قال: "لولا أ نّه زيد في كتاب الله ونقص منه، ما خفي حقّنا على ذي حجى، ولو قد قام قائمنا فنطق صدّقه القرآن"9.
وهذه روايات قد ضعفها جمع من كبار علماء الشيعة كالعلامة المجلسي في كتابه مرآة العقول، والمحدث الكاشاني أيضا في كتابه الوافي10. يقول الشيخ البهائي: "ما اشتهر بين الناس من إسقاط اسم أمير المؤمنين(ع) من القرآن في بعض المواضع.. غير معتبر عند العلماء"11. ولتوضيح هذا الإلتباس يقول السيد الخوئي وهو من كبار مراجع الشيعة الإمامية في العصر الحديث: "إنّ بعض التنزيل كان من قبيل التفسير للقرآن وليس من القرآن نفسه، فلابدّ من حمل هذه الروايات على أنّ ذكر أسماء الأئمة في التنزيل من هذا القبيل، واذا لم يتمّ هذا الحمل فلابدّ من طرح هذه الروايات لمخالفتها للكتاب والسنّة والأدلّة المتقدّمة على نفي التحريف"12 .
وقد يحتج بعض المتحاملين بما يردده الشيعة عن مصحف علي أو مصحف فاطمة وبأنهما قرآنين غير القرآن الذي نعرفه، وهذا خلط يستدعي الضحك لأن كلمة مصحف هنا لا تعني القرآن المقصود به كتاب الله تعالى. بل فقط صحيفة تدعى أيضا الجامعة كما ورد في بعض السنن، يحكى أنها تحوي أحكاما شرعية أملاها الرسول (ص) على الإمام علي (ع). و نفس الأمر يقال عن صحيفة الزهراء بنت الرسول (ص) والتي تحوي بدورها أدعية وروايات يقال بأن جبريل قد أملاها عليها لمواساتها على فقد أبيها (ص)، وهو أمر يحتاج أيضا إلى تحقيق.
أما عن كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب"، الذي ألفه الميرزا محمد حسين النوري الطبرسي المتوفي سنة 1320 هجري وهو عالم شيعي. فقد رد عليه كل علماء ومراجع الشيعة وأثبتوا تهافت حججه بالأدلة والبراهين الساطعة. وبالتالي فلا يجوز تحميل كل الشيعة زلات عوامهم أوبعض علمائهم، وإلا فإن عند السنة أيضا من قام بنفس الأمر، كما فعل أحد المصريين سنة 1498م عندما ألف كتاباً سماه "الفرقان" تتبع فيه بعض الأحاديث التي تفيد بتحريف القرآن، والتي وردت في بعض المتون السنية ليشكك في صيانته من التحريف. وقد طلب الأزهر من الحكومة المصرية مصادرة هذا الكتاب بعد أن بين بالدليل والبرهان أوجه البطلان والفساد في هذا الكتاب، فاستجابت الحكومة لهذا الطلب وصادرتْ الكتاب، فرفع صاحبه دعوى يطلب فيها تعويضاً، فحكم القضاء الإداري في مجلس الدولة برفضها؟؟
والكاتب هنا لم ينطلق من فراغ، إذ بالفعل توجد بعض الروايات الغريبة في المتون السنية تشير إلى الزيادة أو النقص في القرآن الكريم، الأمر الذي يسهل على المشككين في صيانة القرآن من التحريف الطعن في كتاب المسلمين وعقيدتهم. فقد رُوي عن عمر واُبي بن كعب وعكرمة مولى ابن عباس: "أنّ سورة الأحزاب كانت تقارب سورة البقرة، أو هي أطول منها، وفيها كانت آية الرجم"13.
ورُوي عن أبي موسى الأشعري أنّه قال لقرّاء البصرة: "كنّا نقرأ سورة نُشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فانسيتها، غير أنّي حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب"14، كما روي بطرق متعدّدة أنّ عمر بن الخطاب، قال: "إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم.. والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها، الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة، نكالاً من الله، والله عزيز حكيم. فإنّا قد قرأناها"15، ويقال بأن هذه الآية كانت من القرآن ثمّ نسخت تلاوتها وبقي حكمها. وهذا من التبريرات الواهية التي يقدمها بعض علماء السنة لتبرير مثل هاته الروايات الغريبة، لأن الناسخ والمنسوخ كلاهما يوجد في القرآن الكريم. يقول ابن الخطيب: "أمّا ما يدّعونه من نسخ تلاوة بعض الآيات مع بقاء حكمها، فأمر لا يقبله إنسان يحترم نفسه، ويقدّر ما وهبه الله تعالى من نعمة العقل، إذ ما هي الحكمة من نسخ تلاوة آية مع بقاء حكمها؟"16.
وفي الختام فإن كلا من علماء السُنّة وعلماء الشيعة من المحقّقين، قد أبطلوا كل تلك الروايات التي تفيد النقص أو الزيادة في القرآن الكريم واعتبروها شاذة ولا يعتد بها، وذلك بالحجج والأدلة المقنعة، فالقرآن الذي بين أيدينا هو نفس القرآن الذي اُنزل على نبيّنا محمد(ص) غير محرف. ومن شد عن هذا الرأي فهو لا يعبر إلا عن نفسه ولا يصح أن نتهم طائفة من المسلمين ببعض الآراء الشاذة لبعض علمائها أو بعض الروايات السقيمة في متونها مما يحتاج إلى تحقيق، خاصة وأن هناك الكثير من العمل ما زال ينتظر الباحثين والمحققين لدى الشيعة والسنة من أجل مراجعة وتحقيق التراث الإسلامي.
هوامش:
1- سورة الحجر-الآية 9-
2- كتاب اعتقادات الإمامية المطبوع، مع شرح الباب الحادي عشر: 93 ـ 94.
3- أوائل المقالات في المذاهب المختارات: 55 ـ 56.
4- البيان في تفسير القرآن ، الخوئي: 259.
5- عقائد الإمامية: 62.
6- الكافي: 8 / 125، ح95.
7 -الكافي: 8 / 414
8 -تفسير نور الثقلين: 1/487 نقلاً عن اُصول الكافي
9 - تفسير العياشي: 1 / 13 ح 6
10- الوافي : 2/273
11- آلاء الرحمن: 1/26
12- البيان في تفسير القرآن: 230
13 - الإتقان: 3/82، مسند أحمد: 5/132، المستدرك : 4/359، السنن الكبرى: 8/211، تفسير القرطبي: 14/113، الكشاف: 3/518، مناهل العرفان: 2/111، الدر المنثور: 6/559.
14- صحيح مسلم 2: 726 / 1050.
15- المستدرك: 4/359 و 360، مسند أحمد: 1/23 و 29 و 36 و 40 و 50، طبقات ابن سعد: 3/334، سنن الدارمي: 2/179.
16- الفرقان: 157.
*باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية