رمضان مصباح الادريسي
في المقاربات التحليلية لانسحاب بعض قواتنا العسكرية التي كانت ترابط بموقع الكركرات العازل والسائب، في إطار مهام تطهيرية لعصابات التهريب وبؤرا محتملة للإرهاب الديني العابر للحدود ومهام تجهيزية وطرقية؛ استحضر المحللون الأبعاد السياسية، الدولية بالخصوص، للانسحاب، وروّجوا ما وسعهم الترويج لمكاسب "مزيانة للكاك"، كما يتندر القنيطريون، حينما يتوسمون في كل شيء يحدث بمدينتهم، خيرا لفريقهم.
نعم، هناك مكاسب محتملة إذا أخلصت الأمم المتحدة البحث في المناطق المعتبرة محررة، منذ عشرات السنين (خمس الصحراء المسترجعة)؛ لتقف على الأسباب الحقيقية لبقائها خالية وموحشة، لا تعمرها سوى الثعالب والذئاب، وعصابات التهريب المختبئة وراء راية الانفصال، ومزاعم الاستعمار والمظلومية التي يصدقها من لا يعرف تلكم الربوع والأصقاع التي تدخر للمنطقة المغاربية، وللعالم مفاجآت من عيار "خلافة البغدادي"، ودويلات "ماليستان".
وإذا أخلصت الأمم المتحدة، أيضا، في مقارنة هذا الخلاء الطافح بالترف السياسي المسلح، بالعمران الطافح حضارة، الذي عوض للصحراء كل السنين العجاف التي عاشتها تحت أقبح استعمار أوروبي.
كيف تجيز بعض الدول عسكرة الخلاء لإنتاج الخراب، ولا تجيز للمغرب حماية مدنه الجنوبية التي انتزع ثمن عمرانها من خبز شماله؟
ويبقى على الجزائر أن تبدد حيرة العالم وهو يراها تحتضن أكبر سجن شمسي فوق الأرض، في الوقت الذي لا تعترف فيه لنزلائه بحقوق الأسير أو بحقوق اللاجئ السياسي.
ويبقى أن تشرح للعالم أسباب الهشاشة المعمارية المفرطة لسجنها بتندوف، وأسباب بقاء الخلاء الكبير، المعتبر محررا، بدون ساكنة ولا معمار، يدلى به للبرهنة على أهلية سجنائها لإنشاء الدولة الصحراوية، التي تعتبرها حقا لهم.
أعرف أن عند الاتحاد الأوروبي، بالخصوص، الإجابات التي تشرح بالبراهين القوية التلف المزدوج الذي يصيب، منذ عشرات السنين، المساعدات المادية الأوروبية، وأموال الشعب الجزائري..
ولو قارن القضاء الأوروبي، فقط، بين مستندات هذه المساعدات الضخمة وبين العائدات الفلاحية المتواضعة التي تأتت من استثمارات مغربية كبرى في الجنوب القاحل، لأعاد النظر في حكمه، ولاعتذر للمغرب، كما لدول الاتحاد، التي تعرف الحقيقة.
أعود لأقول بأن خطاب المكاسب، الذي غلب على تبريرات الانسحاب، سكت كلية عن المكسب الآني الكبير الذي متعتنا به قواتنا المسلحة، وهي تمارس حقا بسيطا من حقوقها القتالية، تحت إمرة قائدها الأعلى، جلالة الملك.
لقد سبق أن تحدثت في موضوع منشور عن العسكرية المغربية، وصلابة عقيدتها التي تأسست على خبرتها الطويلة في حروب الصحراء؛ وعليه فلن أجاري التحليلات المشار إليها، لأسجن نفسي في التبرير الذي لا داعي له، ولا موضوع.
ةأقف عند المكسب الآني الذي تجلى لي، من خلال متابعة التعاليق، والنشاط الفيسبوكي التواصلي الذي هيجته التحليلات السياسية المسهبة لمجرد حدث عسكري بسيط، يتكرر في كل بؤر التوتر، عبر العالم.
أكبر مكسب متعنا به، عسكريا، هو تجديد الروح القتالية عند المواطنين، من كل المستويات.
ليس سهلا أن تستنهض الروح القتالية لشعب كامل، بمجرد أرتال عسكرية تحركها لأمتار معدودة.
لقد كسبنا، في أيامنا هذه، حيث الجميع لاه عن الجميع، ولا حضور قويا إلا لثقافة الهاتف، وفنون الصعقة الموسيقية المرعشة، أن نرى مواطنينا يستعيدون الروح القتالية التي مكنت أسلافنا من الصمود في هذا الغرب الإسلامي، في مواجهة عوادي الخلافة والفاطميين بالمشرق، وتربصات نصارى الشمال.
مكسبنا أن نرى المواطنين المدنيين، وقد تحولوا إلى عسكر أكثر من العسكر.
بدل التخوف، وامتشاق سيف التبريرات التي لا داعي لها، إطلاقا، يجب أن نثني على كل الآراء التي اقتنعت، رواية عن سلف مقتنع، وعن سلفه وسلفه.. بأن الوطن لا ينبغي أن ينسحب من خريطته.
للعسكرية المغربية عقيدتها وقناعاتها، وهي في جميع الأحوال سليلة هذا الوطن، بكل تاريخه المجيد في حماية حدوده وثغوره، غير عابئ بأزمنة الاحتلال، طالت أم قصرت.
إن الخطر يا محللينا المبررين لأمر بدهي، لا يتوقع من مواطن يعلن أنه مستعد أن يموت من أجل وطنه، ولو تمثل في صخرة من طبقال، يتدحرج معها من الشواهق، إلى أن يمسك بها؛ وإنما يوجد حيث يوجد موت التاريخ الصادق، وميلاد التاريخ المنافق.
إن أغلب المغاربة من السلالات المقاتلة، وقد سبق لي أن فسرت مطالبتهم بتدخل القوات المسلحة، لصد فيضانات الجنوب، بالحضور القوي للروح القتالية عندهم، وهذه نعمة، خصوصا حينما ننتبه إلى كوننا نحوز، من الكرة الأرضية، أفضل ما أبدعه الله من أمكنة.
وتساعدنا الجزائر، مشكورة، في بقاء جذوة القتال مشتعلة؛ وقد سبق أن اعتبرتها سببا من أسباب تأسيس عقيدة عسكرية مغربية صلبة، نضاهي بها أعتى الجيوش في العالم.
لمحللينا الكبار، أقول: لا تقعوا أبدا أسرى السخونة، تريثوا حتى تستعيد الدورة الدموية، وحتى دورة التاريخ، هدوءها واتزانها.
حتى والأمر محسوب على المناورة العسكرية، المرهونة بظرفها وقادتها، فإن الوطن يظل دائما في خرائطه.
إن حاجتنا إلى مواطنين منتصبين للقتال أقوى من حاجتنا إلى محللين سطحيين.
وكما قيل، إذا أردت السلم، فاستعد للقتال. ولكي لا تستعمل القوة أظهرها.
تحية إلى قواتنا المسلحة، ومثلها إلى كل السلالات المواطنة والمقاتلة، التي ما وجدت حيث نحن إلا لتقاتل. ولو لم يكن أسلافنا مقاتلين لما حصل لنا شرف المواطنة المغربية؛ لكنني لا أفهم لماذا تخلت الدولة عن التجنيد الإجباري للشباب؟ أمن شدة الثقة في النفس، وفي الاحتراف؟