كثيراً ما ألاحظ المواطنين "مْدَّحْسينْ وْشِي لَصْقْ فْشِي" أمام شبابيك الإدارة والقطار والبنك، وفي السوق وفي الحافلات وفي الطاكسيات، وعند البقال وفي المتاجر، وحتى في الطرق أمام الضوء الأحمر ترى السيارات "كَدَّحْسْ"، وكذلك في مصعد العمارات، وكأن المغربي ليس بمقدوره أن يقف وراء الآخر محترما هالة الذات أو القوقعة الخصوصية للشخص الآخر، بل بالعكس يقتحمها ويشاركه فيها. ومع الأسف الشديد نرى "هادْ الدّْحاسْ" حتى في المقابر "قْبْرْ لَصْقْ فْقْبْرْ".
ونلاحظ كذلك أثناء الحديث بين الأشخاص كيف كل واحد يقتحم قوقعة خصوصية الآخر ولا يكتفي باقتراب رأسه منه كأنه سيقبل فمه، بل يضع يده عليه ويصبح بداخل قوقعته، ويحاول المتحدثون تكوين دائرة حتى يصبحون كلهم داخل قوقعة واحدة، وإذا حضر شخص آخر تراهم "يْدَّحْسو" لكي يجد مكاناً داخل القوقعة. والشيء نفسه نراه حول طاولة الأكل دائرية الشكل، "يْدَّحْسو" شيئا فشيئا كلما ازداد شخص؛ بحيث يصعب عليك التحرك والتوصل إلى الصحن الفريد دائري الشكل كذلك.
كيف لنا أن نحلل "الدّْحاسْ"، هذه الظاهرة الناتجة عن تجاهل وتواجد هالة الذات الخصوصية لكل شخص؟
1- التربية
أ- غياب احترام الطفل جسدياً ومعنوياً: إن العنف الذي يمارس على الطفل منذ صغره (الضرب والشتم والاحتقار...) لا يسمح للطفل بأن يُكوِّن ويُطور قوقعته الخصوصية وحسب، بل يتركه بدوره لا يرى قوقعة خصوصية والديه وإخوته. وبهذا لا يرى حدوداً بين قوقعته وقوقعة الآخرين، وبالتالي يجهل المسافة التي تفصله عن الآخر التي يجب احترامها.
ب- عدم احترام ممتلكات الطفل، "عْطِي اللعبة لْخوكْ صْغيرْ": الطفل المغربي يجهل فضاءه وفضاء الآخر ولا يرى سوى فضاء واحد. ولهذا لا يفرق بين ممتلكاته وممتلكات إخوانه، ويضع يده على ما تريد نفسه، ويقوم النزاع بين الإخوة ويتدخل الأب ليطلب من الكبير أن يتخلى عما يملكه للصغير. وبهذه الطريقة يتعلم الأخ الصغير أن بإمكانه أن ينزع ما يريد من الآخر، ويتعلم الأخ الكبير نموذج الأب الظالم وينتقم عندما تتاح له الفرصة. فإذا لم تحترم ملكية الطفل، كيف له أن يحترم الملك العام؟ وإذا انعدم تكوين ووُجود قوقعته الخصوصية، كيف له أن يتعرف ويحترم قوقعة الآخر؟
ت- عدم احترام فضاء الطفل، "نوضْ جْمْعْ عْلِيَّ قْشاوْشْكْ مْنّْهْنا": الطفل هو في حاجة إلى فضاء معين يلعب فيه، وهذا الفضاء هو مادي ورمزي كذلك. فلما يأتي الأب ويدهس فضاء الطفل ويلقي بعيدا برجله لُعب الطفل صارخاً أن يذهب إلى مكان آخر، فهذا أمر خطير يَحط من شخصية الطفل إلى أسفل الدرجات. وهذا من العوامل التي تجعل الطفل لا يشعر بقوقعته الخصوصية، وبالتالي لا يتعلم نموذجاً لاحترام الآخر؛ فيدهس الفضاء الخاص والعام، و "يْدَّحْسْ مْعَ كُلْشِي".
2- عوامل اقتصادية وثقافية
أ- انحطاط المستوى الاقتصادي: يتسبب في عدم قدرة العائلة المغربية على توفير منزل فيه غرفة لكل طفل، وفي غالب الأحيان ينام الإخوة في بيت الجلوس. ومادياً، يغيب الفضاء الخاص بالطفل لكي يشعر بقوقعته الخصوصية، وبالتالي ينشأ كل الأطفال في قوقعة عمومية ويتدربون على "الدّْحاسْ" منذ صغرهم جاهلين مفهوم حدود منطقة كل واحد منهم.
ب- مفهوم الجماعة والكبرياء: المجتمع المغربي قبائلي منذ القدم "الخيمة الجامعة"، وبحكم ضعف العوامل الاقتصادية يستمر الاعتماد على الجماعة التي تمده بالقوة. ولهذا لا يستطيع الفرد أن تكون له قوقعته الخصوصية خوفاً من الاندثار، ويبقى بداخل قوقعة الجماعة، ويصبح "الدّْحاسْ" بالتالي شيئاً طبيعياً وضرورياً. وبدون شك، فإن أي فرد تمكن من تكوين قوقعته الخصوصية يُعتبر متكبرا من طرف الجماعة، ويجب عقابه "خروجه من الخيمة". وهذه كذلك من العوامل التي تكسر الشخصية الفردية للمغربي ولا تسمح لها لا بالتكوين السليم ولا بالاستقرار.
ت- طريقة الأكل والشرب، "لِيَكْلوهْ جُوجْ يَكْلوهْ عْشْرَ": غالبية البيوت المغربية يأكل كل أفرادها في صحن واحد جالسين حول مائدة مستديرة و"مْدَّحْسينْ". وهذا النمط لا يسمح للفرد بأن يحدد منطقته، أو يأكل قسمته براحة البال ويحترم منطقة الآخر. كما نرى على الطاولة كأساً واحداً أو اثنين يمر من فم إلى آخر، فأين هي قوقعة خصوصية كل فرد؟ ولهذا نشاهد، مثلاً، عندما تكون في القطار أو حتى في الطريق وبيدك قنينة ماء ويطلب منك شخص "واحْدْ شْريبَ عَفاكْ" ويجهل أنك وضعت فمك في فم القنينة وتستجيب لطلبه حتى لا يعتبرك متكبراً ويشرب، ثم يرجع لك القنينة كالكأس الذي يطوف حول أفواه المجتمعين على الصحن.
أغلب التعليقات على مقالاتي تطلب مني الحلول، وللأسف ليست حلولي هي التي سوف تغير الأوضاع، ولكن المجهود والبحث الشخصي لكل واحد منا عن الحلول هو الحل لتغيير وتقدم مجتمعنا.
* طبيب ومحلل نفساني