|
|
|
|
|
أضيف في 07 مارس 2017 الساعة 39 : 03
محمد ابن الأزرق الأنجري*
جرى بيني وبين بعض الفضلاء حوار حول قوله تعالى: (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ)، على هامش منشور لي وضع على سبيل الطرفة العلمية. وقلت هناك ما معناه: (فتحت يأجوج ومأجوج): تحتمل معنيين: الأول: أن الفتح حدث قديما قبل الإسلام، وانقضت القصة، فلا علاقة لها بالقيامة. الثاني: يأجوج ومأجوج شعب بشري أفسد في الأرض قديما فهزمه الله على يد ذي القرنين، وسيستعيد قوته قبل القيامة، ويفسد في الأرض ثانية فيهلكه الله بطريقة يعلمها سبحانه. وكان محاوري يميل إلى القطع بأن الآية صريحة في أن "فتح يأجوج ومأجوج" مستقبلي، كما هو شائع في الثقافة الشعبية المستمدة من التفاسير. وقد ناقشته في قضية القطع، ورجّحت أن الآية محتملة دائرة بين الاحتمال الأول والثاني لعدم وجود قرينة صريحة ترجّح أحدهما. ومن بركات الحوار مع النفوس الكبيرة أن دفعني إلى إعادة تأمل الآيات الواردة في شأن "يأجوج ومأجوج"، والخروج بتفسير ثالث، هو الاحتمال الأقوى والأظهر عندي إلى حد الآن. وقبل عرضه، أقدم بين يديه بهذه المسائل: المسألة الأولى: ذكر الله يأجوج ومأجوج في موضعين فقط من كتابه الكريم: قال تعالى ضمن قصة "ذي القرنين" من سورة "الكهف": (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ، إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سدًّا (94) قالَ: مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ. حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ: انْفُخُوا، حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا قالَ: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكّا وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101). وقال سبحانه في سورة الأنبياء: (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ، فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا: يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99). المسألة الثانية: غالب الأحاديث الواردة في "يأجوج ومأجوج" شبيهة بالخيال والخبال، وبعضها إسرائيليات نسبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعل الاختلاط والنسيان، أو التلقين والتوجيه من قبل زنادقة أهل الكتاب، أو حبّا في الظهور بمظهر الحافظ للحديث النبوي... ولما كان كتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكانت تلك الأحاديث في مجملها كما ذكرنا، بل وفيها ما يناقضه صراحة كالأحاديث التي تنعتهم بصفات لا تنطبق على الجنس البشري، فالنقل والعقل يقضي بالإعراض والتوقف في شأنها وعدم الاعتماد عليها في دراسة قصة القوم أو تدبر الآيات المرتبطة بهم. والواجب الذي يوصلنا إليه ما تقدم، هو الاستناد إلى كتاب الله حصرا في هذا المبحث. المسألة الثالثة: تأمل كلام الله وحده يفضي إلى أن "يأجوج ومأجوج" بشر عاقلون مثلنا، وأن كل نعت يخالف بشريتهم أساطير وأكاذيب. فيأجوج ومأجوج كانوا موجودين زمن ذي القرنين الذي كان بعد سيدنا موسى أو بينه وبين سيدنا إبراهيم. ولا يعرف علم التاريخ أو الآثار أن الأرض عرفت جنسا مفسدا في الأرض غير بني آدم. ويقرّ العلم بكل فنونه بأن شعوبا كانت قوية مفسدة، أصابها الضعف والهوان والتقهقر، وتسلطت عليها الأوبئة والكوارث حتى كادت تنقرض، وما بقي منها حيا تحول إلى قطيع معزول مهزوم يتعرض للاستعباد من قبل الشعوب الأخرى. وهذا ما حصل ليأجوج ومأجوج. فالظاهر للمتدبر أن قوله سبحانه: (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً)، يشير إلى أن القوم كانوا يهاجمون جيرانهم المستضعفين للاستيلاء على محاصيلهم بوحشية مضمنة في: (مفسدون في الأرض)، فلما حاصرهم "الردم" الذي أقامه ذو القرنين، أصابتهم المجاعة والضعف، فما قدروا على تسلّق الجبال والرّدم، ولا وجدوا حيلة لخرقه والمرور منه. وتلك إشارة عقلية على تعرّض المفسدين للانقراض أو ما يشبهه، بسبب الجوع والأمراض الناتجة عنه، وهي نهاية القوم الطاغين حسب سنّة الله في الأمم الماضية. فإما أنهم انقرضوا تماما كما حصل لقوم سيدنا نوح، وهو الأظهر، أو بقيت منهم بقية هزيلة ذابت في غيرها من الشعوب المجاورة. المسألة الرابعة: هذا قانون التاريخ الذي لا يتخلّف، وغير ذلك دجل وتخريف، زرعه دهاة أهل الكتاب في عقول المسلمين لهزيمتهم نفسيا حين يتعرّضون لغزو مستقبلي مفترض. وهو ما حصل مرات، فكان "العلماء" المصابون بفيروس "يأجوج ومأجوج" يحدثون العامة بأن المغول هم "يأجوج ومأجوج"، وأنه لا قبل بمواجهتهم وجهادهم، فاستسلموا، وتمكن التتار من تدمير حضارة المسلمين وإدخالها مرحلة الانهيار، بينما كان الصليبيون يتفرجون وينتظرون الفرصة للانقضاض على الأمة باسم المسيح المخلّص المرتبط نزوله في ثقافة فيروس يأجوج ومأجوج بخروجهم. وحين تعرّضت أمتنا للاستعمار الأوربي، ذكّرتها بعض الأصوات المغفّلة بالقيامة ويأجوج ومأجوج ثانية. وفي الحمقى والمغفّلين المعاصرين من يرى أن الصينيين هم يأجوج ومأجوج، وأنهم سيغزون العالم يوما ما، ولن يكون أمام المسلمين إلا الهروب إلى الجبال والكهوف وترك الأرزاق والخيرات للمارد الذي لا يقدر على مواجهته "المسيح المخلّص" نفسه. هل علمتم الآن لماذا زرع دهاة أهل الكتاب المتظاهرون بالإسلام، مثل كعب الأحبار ورفاقه، فيروس الرعب من "يأجوج ومأجوج"؟ ظهرت أحاديث الباب بعد الفتح الإسلامي على يد قادة الفاروق رضي الله عنه، فوضع الدهاة أصحاب الخبرة بالأمم، الخطة المستشرفة لما بعد عشرات أو مئات السنين، بدايتها شلُّ العقول وهزيمة النفوس المسبقة بالأساطير والخرافات. طبعا، وجد دراويشنا الرواة الأوائل يأجوج ومأجوج مصطلحين قرآنيين، ولم يكونوا في مستوى استشعار مكر دهاة أهل الكتاب، فصدقوا التجديف، واعتقدوا التخريف، وتنافسوا في إشاعته، وتكاثرت طرق روايته، وفقدت الحلقات الأولى للدّس والتلقين، فتسلّم أمثال الأئمة أحمد والبخاري ومسلم رضي الله عنهم تلك الأحاديث بأسانيد نظيفة في الظاهر، ولم يكن القوم إلا أهل حديث وفقه، لا خبرة لهم بمكر الدهاة، ولا استشراف لهم للمستقبل، فطاروا فرحا بتلك الأخبار، ووضعوها في مصنفاتهم بنية تدوين السنّة، وما دروا أنهم يمهدون بذلك لتدمير القرآن والسنة والملة... ولو كنا معاصرين لهم، لفعلنا مثلهم، وربما صدقنا كل شيطان مريد، لكننا جئنا بعدهم بقرون، وعرفنا مفاصل تاريخنا الكبرى، واكتشف الباحثون منا ومن غيرنا مكر الرهبان والأحبار بالأمم والملل، فهدانا الله لما حجبه عن سلفنا المعذور المغدور. نعم، لا يزال صوت المرضى بفيروسات الماكرين عليا مجلجلا، لكن الأمل يشتد ويقوى يوما بعد يوم، فهناك طليعة لا بأس بها من الباحثين المؤمنين المخلصين المنتبهة اليقظة تسعى إلى استنهاض أمتها وإيقاظها من التخدير. المسألة الخامسة: "يأجوج ومأجوج" تسمية أطلقها القوم المستضعفون على الطغاة المجرمين المفسدين الجاهليين. ونظرا لصلاح هؤلاء المستضعفين وإسراعهم إلى الإيمان بدعوة الله التي جاءهم بها ذو القرنين، فإن الله أكرمهم باقتباس تلك التسمية وإطلاقها على كل الجاهليين المفسدين المجرمين عبر التاريخ. فيأجوج ومأجوج الذين (من كل حدب ينسلون)، هم كل الجاهليين الوحشيين الهمجيين على مرّ تاريخ البشرية. فيندرج فيهم من حاصرهم ذو القرنين حتى انقرضوا أو كادوا، ومن قبلهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة. فتذكر هذا التفسير الجديد، وسنشرح لك معنى (ينسلون)، ومتى. وحُقّ للمستضعفين الذين كانوا (لا يكادون يفقهون قولا)، حتى إنهم أطلقوا اسما لا يشبهه اسم برهانا على سذاجتهم اللغوية: "يأجوج ومأجوج"، حُقّ لهم أن يقتبس الله منهم هذا التعبير الساذج ويخلّده في كتابه. المسألة السادسة: بيت القصيد ومعنى "فتح يأجوج ومأجوج": أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبر أحاديث صحيحة كثيرة يعضّدها القرآن والمنطق، بأن القيامة لن تقوم إلا على شرار الخلق. وشرار الخلق هم الجاهليون المجرمون الهمجيون المفسدون في الأرض قطعا. وحين يأذن الله بالقيامة، لن يبقى على الأرض إلا الطغاة المجرمون المنكرون لوجوده ووحدانيته، فالمؤمنون والمستضعفون ينقرضون شيئا فشيئا. ثم إنه سبحانه وتعالى يبعث كل مجرمي التاريخ البشري من قبورهم، وهم "يأجوج ومأجوج" بتعبير المستضعفين زمن ذي القرنين، فينضافون إلى شرار الخلق آخر الزمان. وهذا معنى قوله سبحانه (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ)؛ أي فتحت القبور عنهم فينسلون منها أحياء، بدليل أن كلمة "ينسلون" لم ترد في كتاب الله المحكم الحكيم إلا في موضعين: الأول هنا في سورة الأنبياء. والثاني في سورة "يس"، وهو قوله تعالى الواضح البين لمن يتدبره بعيدا عن الروايات المشوّشة: (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53)). فالذين ينسلون من الأجداث/القبور هم المنكرون للبعث الطغاة المجرمون/يأجوج ومأجوج البشرية عبر تاريخها. وكتاب الله يشرح بعضه بعضا؛ أي إن "ينسلون" سورة يس المفسَّرة الواضحة، تفسِّر وتشرح "ينسلون" الواردة في الأنبياء. والإعراض عن تفسير القرآن بالقرآن يؤدي إلى الدجل غالبا. والغرض من بعث "يأجوج ومأجوج" قبل القيامة هو التعذيب والعقاب لهم بالأهوال من زلازل ودكّ الأرض، ومعها "ردمهم" دكّا؛ (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) القيامة (جَعَلَهُ دَكّا وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا). وفي سورة الفجر: (كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا). فالرّدم سيندكّ مع الجبال التي يقع فيها خلال المرحلة الأولى من يوم القيامة، لا زمن نزول سيدنا عيسى المشكوك فيه أيضا. وحين تبدأ الزلازل والدّكّ، يضطرب شرار الخلق/يأجوج ومأجوج، ويصيرون (سكارى وما هم بسكارى)، يتلاطمون ويتداخلون كالأمواج: (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ)، (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا: يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ)، (قالُوا يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا). يقرّون بأنهم كانوا مجرمين مفسدين، ويتساءلون عن الذي بعثهم من مراقدهم فخرجوا "ينسلون"، فيقال لهم على سبيل التنكيل النفسي: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ). (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ). أما المؤمنون، ومعهم المستضعفون من جميع الملل، فإنهم لا يحضرون أهوال القيامة السابقة على الحشر، فذاك خاص بيأجوج ومأجوج البشرية من أولها إلى آخرها. فإذا انتهى المشهد الخاص بشرار الخلق، أذن الله في بعث المؤمنين والمستضعفين: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً). فتجتمع البشرية كلها تمهيدا للجزاء الخالد، وتنقسم إلى ثلاثة أصناف قبل الجزاء وبعده، كما في سورة الواقعة: (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11). فيكون المقربون، وهم المؤمنون الصالحون من كل الأمم، في جانب. ويكون أصحاب اليمين، وهم المستضعفون من الأمم، في جانب. ويكون يأجوج ومأجوج؛ أي شرار الخلق المجرمون أصحاب الشمال، في جانب مستمتعين بالعرض المسبق على جهنم؛ أي قبل دخولها، تعذيبا وإيلاما نفسيا: (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101). الخلاصة: "يأجوج ومأجوج" تسمية أطلقها المستضعفون زمن ذي القرنين على جيرانهم من الشعوب البشرية الكافرة المفسدة الهمجية، ثم أكرم الله هؤلاء المستضعفين، فجعله نعتا لكل المجرمين الظالمين عبر التاريخ. ففرعون موسى من يأجوج ومأجوج، وكذلك قوم نوح وهود وصالح الذين أهلكهم الله، ومجرمو العرب والعجم قديما وحديثا ومستقبلا، كلهم يأجوج ومأجوج. هؤلاء الطغاة المفسدون سيتكرّم الله عليهم بفتح عظيم؛ إذ يبعثهم قبل القيامة من قبورهم، فينسلون؛ أي يُرسَلون منها، فيخرجون من كل حدب وصوب للاستمتاع بمشاهد القيامة التي أنكروها فطغوا في البلاد. أي إن خروج "يأجوج ومأجوج" الذين سجنهم ذو القرنين آخر الزمان، فيسيطرون على الأرض مع وجود المسلمين وسيدنا عيسى المسيح، ويؤمر المؤمنون بالاستسلام والانسحاب نحو الجبال فرارا من المارد الجبار، الذي يشرب مياه كل بلدة، ويأكل معاشها... خرافة وأسطورة صيغت لإصابة عقلية الأمة ونفسيتها بالهزيمة. والعجيب أن سادتنا العلماء من السلف والخلف لم يطرحوا على أنفسهم هذا السؤال: إذا كان "ردم ذي القرنين" البدائي البسيط مكّنه -بشهادة القرآن -من محاصرة يأجوج ومأجوج وإضعاف قوتهم، فما الذي يجعل سيدنا عيسى، وهو أحد أولي العزم من الرسل، يعجز عن مواجهة القوم، علما أنه سيكون في زمن متطور تكنولوجيا، على فرض نزول المسيح عليه السلام ثانية؟ والأعجب، أن علماءنا ومفكرينا ودعاتنا اليوم يشاهدون هذا التطور التقني الصناعي الهائل الجبار الذي بلغته البشرية؛ بحيث لو كان موجودا زمن ذي القرنين لجمع كل يأجوج ومأجوج عصره في محمية طبيعية، وترك الأطفال يلعبون بهم كما يحدث للحيوانات اليوم في الحدائق والمحميات والمنتزهات. ما كان ذو القرنين إلا ملكا عادلا عظيما بمقاييس الماضي، وليست تلك العظمة مقارنة بحاضرنا إلا لُعبا، فكيف لو تصوّرنا التطوّر المستقبلي؟ باختصار، لو خرج يأجوج ومأجوج ذي القرنين في عصرنا أو بعده، لسكنهم الرّعب والهول منّا، ولتمنّوا عدم الخروج، ولبحثوا عن المخابئ في كل ناحية ورفعوا إشارة الاستسلام، فلن يكون حالهم معنا إلا أسوأ من حال الهنود الحمر مع الغزاة الأوربيين. احترموا عقولكم يا قوم لم يكن يأجوج ومأجوج ذي القرنين إلا بشرا عاديين مفسدين همجيين. ولن يكون ذو القرنين أكرم على الله من السيد المسيح لو صحّ نزوله. وكيف تصدقون أن المسيح سيهزم الدجال الذي قدمته الأحاديث الخرافية المصحّحة عندكم على أنه أقوى طاغوت تعرفه البشرية، مما يستلزم أنه أقوى من يأجوج ومأجوج، ثم يفشل المسيح في مواجهة الأضعف، ويهرب هو ومن معه إلى جبل الطور؟ كيف تجمع عقولكم بين المتناقضات؟ اطمئنوا أيها العقلاء، البشرية المعاصرة معظمها يأجوج ومأجوج، فلا خوف علينا إلا منا. لن يحارب البشرية إلا البشر. لن يكون هناك خلق شرّ من البشر. لن يقدر على البشر إلا البشر أو رب البشر. ليس هناك في جوف الأرض شعب مسجون اسمه يأجوج ومأجوج يخرج ويهاجم، كما يشيع السذّج في كل عصر، وبعضهم دكاترة ومثقفون للأسف. ليس في جوف الأرض إلا المعادن والبراكين والمياه الجوفية، وليس في الجبال النائية إلا الحشرات والحيوانات المرعوبة من البشر. ليس هناك أي احتمال لظهور جنس بشري أو حيواني أقوى منا نحن بني آدم، فنحن الخليفة، ونحن السادة، ونحن المكرمون. نعم، هناك خلق وحيد أكرم وأقوى، إنهم الملائكة، وهم الجنس الوحيد الذي سيسلّطه الله يوم القيامة وحين الموت على يأجوجنا ومأجوجنا، قال تعالى في سورة الأنفال: (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ). وفي سورة الصافات: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئولُونَ). وفي سورة الزُّمر: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً، حَتَّى إِذا جاؤُوها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا؟ قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ). وفي سورة الحاقة عن الواحد من يأجوج ومأجوج أصحاب الشمال: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ (26) يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34). صدق الله العظيم، وكذب زنادقة أهل الكتاب المحرّفون. ازرعوا في عقول الأجيال الصاعدة أن التصور التقليدي ليأجوج ومأجوج خيال وخرافة، وكونوا مؤمنين عقلاء أذكياء لا تقعون في التجديف والمجازفة.
*خريج دار الحديث الحسنية
|
|
2017 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|