أزكوار عبد العزيز*
على خلفية التغييرات التي اصبحت تطبع الاهرامات السكانية بإفريقيا، والمتمثلة في بروز فئات شابة كمعطى أساسي لتنمية المجتمعات والمساهمة الفعالة في نهضة وتطور الدول، شكل " تسخير العائد الديموغرافي من خلال الاستثمار في الشباب"، الموضوع الرئيسي للدورة ال28 لقمة الاتحاد الأفريقي التي انعقدت مؤخرا بأديس أبابا.
ويعتبر هذا المنتدى مناسبة تاريخية، وفرصة مواتية للنقاش حول توظيف العائد الديموغرافي الناجم عن الانتقالات السكانية التي تعيشها الدول الافريقية ومن ضمنها المغرب. ومما يميز التغييرات الديموغرافية، ارتفاع حجم السكان الناشطين أي التي توجد في سن العمل والانتاج، مع تارجع حجم الفئات العمرية المعالة وخصوصا الاطفال صغر السن وفق وقع التراجع المسترسل لمجموع مؤشرات التوالد، والخصوبة والوفاة.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن النقاش حول القضايا والاشكالات السكانية قد أنصب، منذ النصف الثاني من القرن الماضي، حول التضخم السكاني، وضبط الخصوبة البشرية، وتنظيم الاسرة، وتبني وإعمال سياسات سكانية في البلدان التي سجلت بها معدلات مرتفعة للخصوبة مما كان يعرض للخطر قدرة رفع مستوى معيشة الاسر. وقد عرفت إشكالية ضبط الخصوبة البشرية في البداية جدلا كبيرا في المحافل الدولية والجهوية كمنظمة المؤتمر الإسلامي مما أفضى إلى التخلي التدريجي عن النظرة التشاؤمية التي ارتبطت بنظرية توماس مالتيس، والتي كانت تنظر إلى أن عدد السكان يتزايد بوثيرة أكبر مما عليه الموارد المتاحة. وفي الوقت الراهن، أصبحت كل دول المعمور تعيش في صلب مسارات التحولات الديموغرافية ومن ضمنها من أقبل على المراحل السلبية أي الانكماش السكاني (التناقص)، ويعزى ذلك إلى التراجع المسترسل لمعدلات النمو السكاني على مستوى العالم حيث لن تعود الخصوبة لسابق عهدها. وينظر إلى انخفاض معدلات الخصوبة على أن توفر دعما لإصلاح السياسات من أجل تحقيق النمو الاقتصادي عن طريق تقليل نسب الاعالة، لكن الامر يتعدى ذلك إلى الحد من النمو السكاني الذي يعرقل النمو الاقتصادي.
ويعتبر الانتقال الديموغرافي كمرحلة قبلية للعائد الديموغرافي، مفهوما تم صقله ومعاينته في اروبا خلال القرن الثامن عشرة، ويتمثل في الانتقال من مرحلة ارتفاع المواليد التي كانت تقابلها الوفيات، إلى مرحلة انخفاض مؤشرات الوفيات وصولا إلى مرحلة انخفاض المواليد. اما "العائد الديمغرافي أوالهبة الديموغرافية"، بحسب صندوق الامم المتحدة للسكان، فهو "نمو اقتصادي محتمل يمكن أن ينشأ عن تحولات في التركيبة العمرية للسكان، تكون شريحة السكان في سن العمل أكبر من الفئة في سن لا يسمح بعمل كالأطفال وكبر السن"، كما يوفر مشروعا تنمويا يؤدي الى تسريع معدلات النمو الاقتصادي ودفع عملية التنمية، وزيادة معدلات التشغيل، ومعالجة مشكلة البطالة والفقر اذا تم بناء القدرات البشرية وتنميتها على اساس التفاعل بين كفاءتها على مستوى التعليم والمها رات، وبين ما تطلبه عملية النمو الاقتصادي، والتنمية المستدامة بشكل عام. وتبقى الهبة الديموغرافية ظاهرة مؤقتة ولن تستمر طويلا)جيل تقريبا(، ويشترط لوقوعها أن تقل نسبة السكان دون سن 15 عن % 30 وألا تزيد نسبة كبار السن 65 فأكثر من 15 %من اجمالي عدد السكان. وحسب البيانات الاممية يعرف العالم اليوم أكبر نسبة من صغر السن (10 إلى 24 سنة) لم يسبق أن تحقق عبر التاريخ والتي تقدر ب 1,8 مليار نسمة ، إي ما يمثل 25% من مجموع سكان المعمور علاوة على أن 90% منها تتواجد في الدول الاقل نموا ومنها إفريقيا. وقد عايشت، للمرة الأولى، أوروبا وامريكا هذا النموذج مستغلة بذلك العائد الديموغرافي وتسخيره لمراكمة الثروات والمعارف كما سايرت أمريكا اللاتينية ودول شرق أسيا، نفس المنحنى و بإيقاعات انتقالية مختلفة.
إن النموذج والمسارات المتبعة من طرف نمور أسيا، ساعد اليوم على الاستفادة وتحقيق الربح من نافذة الفرص التي منحها العائد الديموغرافي. وبحسب صندوق الامم المتحدة للسكان (2014) كان , سنة 1950 ، لدى كل من الفلبين, وتايلند وجمهورية كوريا نفس عدد السكان الاجمالي الذي يتراوح بين 19 و 20 مليون نسمة . وبدأ انخفاض معدلات الخصوبة في مرحلة مبكرة وبصورة حادة في جمهورية كوريا وتلتها تايلند أما في الفلبين فقد انخفضت معدلات الخصوبة بصورة ابطا. واليوم، يبلغ عدد السكان في كل من جمهورية كوريا (50 مليون نسمة)، وتايلند (67 مليون نسمة)، والفلبين ( 101 مليون نسمة). وفي نفس الاتجاه وخلال المدة الممتدة مند 1950 إلى 2014 عرفت نسبة التطور للأقل من 15 سنة على التوالي (% 13-) و (% 35+) و ( 320%+).
و اليوم، وباختلاف المسارات والتباينات في السرعة والتوقيت، تتعايش وتتفاعل كل الدول الافريقية مع مرحلة من مراحل مسلسل الانتقال الديموغرافي. والمغرب، تميز مند 1960، على غرار تونس التي كانت رائدة، بالدينامية والتطور السكاني الفائق السرعة حيث تمكنا من قطع مراحل انتقالهما الديموغرافي في وقت قياسي بالمقارنة مع بعض الدول الأوروبي.
وعلى الرغم من ذلك، لم تستغل تلك الهبة الديموغرافية بشكل أمثل بغاية تحقيق النمو الاقتصادي المرجو، ويرجع ذلك إلى عدم الاهتمام الكافي بالعنصر البشري، وبالتالي لم تتمكن معظم الدول الإفريقية من الاستفادة بكثافة الشباب، لينقلب الأمر إلى العكس حيث انتشار البطالة، وما يترتب عليها من مشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية. وفي خطاب جلالة الملك محمد السادس امام المشاركين في أشغال القمة الثامنة والعشرين لدول الاتحاد الافريقي التي انعقدت مؤخرا بأديس أبابا، تضمن السؤال العميق التالي:" ألم يحن الوقت لنتوجه نحو قارتنا ، وان نأخذ بعين الاعتبار رصيدنا الثقافي وإمكاناتنا البشرية؟".
وحسب نتائج الإحصاءات العامة للسكان والسكنى المنجزة مند الستينات، يقبل المغرب حاليا على طي المرحلة الأخيرة من الانتقال الديموغرافي نظرا للتراجع البارز لمعدل النمو الديموغرافي السنوي المنتقل من 2,58% خلال المرحلة الممتدة من 1960-1971 إلى 1,25% خلال العشرة سنوات الفارطة 2004-2014. وفي نفس الاتجاه تراجعت الخصوبة بشكل سريع منتقلة من 7,2 طفل لكل امرأة سنة 1962 إلى 2,2 طفل لكل امرأة سنة 2014 الشيء الذي أحدث تغييرات بارزة على التركيبة السكانية، حيث تراجعت من جهة نسبة الأطفال دون الخامسة عشرة من 44,4 في المائة سنة 1960 إلى 28 في المائة سنة 2014، وتزايدت من جهة ثانية وفي نفس الفترة نسبة الفئة العمرية الممتدة من 15 إلى 59 على التوالي من 48,4 في المائة إلى 63 في المائة. ومن تداعيات هذه التغييرات، التزايد الطفيف في نسبة الفئة العمرية من 60 سنة فما فوق والمنتقلة خلال نفس الفترة من 4 ,7% إلى 9,4 % مما يدل على أن الشيخوخة ظاهرة بعيدة الافق ولكن ستداهمنا بشكل عنيفة في المستقبل.
و اعتبارا لذلك، فإن نسبة الإعالة، أي الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة أو أكبر من 60 سنة، إلى السكان الذين هم في سن العمل أي الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و 59 سنة، ستعرف انخفاضا مستمرا حيث ستتراجع الأعباء المرتبطة بنفقات التعليم والصحة والتي تشكل عبئا على أعضاء الاسر و الدولة ، وان عدد الاشخاص الذين يعيشون من نفس الدخل ونفس الأصول يتقلس هو الاخر، الشيء الذي تتوفر معه إمكانيات الادخار وإعادة التفكير في نقل الثروات بين الاجيال لضمان التنمية المستدامة.
واستلهاما منا المثل الافريقي القائل، "كلما تغير الإيقاع، تغير الوقع"، فتسريع اقاع تسخير العائد الديمغرافي أوالهبة الديموغرافية تشكل مناسبة مواتية وفرصة سانحة لمراكمة الثروات والمعارف قبل أن تتحول القوة الناشطة من السكان إلى شريحة تابعة ومعالة.
*ديموغرافي