الامتدادات العقدية والفقهية:
إذا كان الشيعة يحملون ما جرى بعد مقتل عثمان إلى عدد من الصحابة الذين وقفوا ضد الإمام علي وأهل بيته (ع) في عدد من المواجهات العسكرية بين المسلمين، فمنهم من نكث بيعته للإمام علي كطلحة والزبير أو ثبط عنه الناس كأبي موسى الأشعري، ومنهم من حاربه بكل الوسائل ليحظى بالسلطة كمعاوية بن أبي سفيان رغم علمه بفضائل الإمام علي وسيرته ومنهجه. فإن أهل السنة يبرؤون هؤلاء الصحابة من كل هاته الإنزلاقات و يرون في هاته الحروب مجرد فتن التبست أمورها على المسلمين، وأن الكل كان يجتهد في تلك المرحلة، فمن أصاب منهم كان له أجران ومن أخطأ لم يحظ إلا بأجر واحد، ولا يحملون المسؤولية لأحد منهم بدعوى نظرية عدالة الصحابة التي سوف يؤصل لها فقهاؤهم في مراحل لاحقة.
ومن جهة أخرى فقد ارتبط مصطلح السنة أساسا بجمع الحديث الذي تأخر إلى أواسط الدولة الأموية في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي كان أول من أخذ هاته المبادرة فأمر الزهري وهو أحد الفقهاء المعروفين بولائهم لبني أمية بجمع أحاديث الرسول (ص)، ولما ولي عبد الملك بن مروان أكمل هذا المشروع لكنه فرض رقابة صارمة على جمع الأحاديث فكانت الدولة تتدخل في هذه العملية بإقصاء الأحاديث التي تخدم خصومهم السياسيين وعلى رأسهم العلويين من شيعة الإمام علي (ع) وأبنائه. وبذلك اعتمدت الدولة الأموية على ترسانة من الأحاديث لبناء أيديولوجيتها ولعب فقهاؤهم دورا مهما في إضفاء الشرعية على هاته الأيديولوجيا.
من جانب آخر لا يختلف الشيعة عن أهل السنة في أصول العقائد إلا في مسألة الإمامة، حيث يضيف الشيعة إلى أصولهم شرط ولاية أهل البيت (ع) والاعتراف بإمامتهم ليكتمل إيمان المسلم. ويؤيدون هذا الأصل بعدد من النصوص والتفاسير التي ورد بعضها أيضا في عدد من المتون السنية التي تقدم الإمام علي (ع) وأبناءه على غيرهم من الصحابة والتابعين، فهم حسب الطرح الشيعي مراجع الأمة وحجج الله على خلقه، وبالتالي وجبت طاعتهم والتمسك بنهجهم وعدم مخالفتهم في شيء من أمور الدين.
والإمامة حسب الإعتقاد الشيعي هي تتمة وتالية للنبوة، والأئمة هم خلفاء وأوصياء الرسول (ص) من أهل بيته، وعددهم يختلف من فرقة إلى أخرى، إلا أن الأشهر عند الشيعة الإمامية -وهم الأكثر انتشارا في العالم- هو إثنا عشر، وهم: علي بن أبي طالب مدة إمامته 28 سنة(633-661) م، الحسن بن علي بن أبي طالب( مدة إمامته 10 سنوات (661–669) م، الحسين بن علي بن أبي طالب مدة إمامته 11 سنة (669–680) م، علي زين العابدين مدة إمامته 35 سنة (680 – 713) م، محمد الباقر مدة إمامته 19 سنة (713–743) م، جعفر الصادق مدة إمامته 34 سنة (743–765) م، موسى بن جعفر الكاظم مدة إمامته 35 سنة (765–799) م، علي بن موسى الرضا مدة إمامته 20 سنة (799–818)م، محمد بن علي الجواد مدة إمامته 17 سنة (818–835) م، علي بن محمد الهادي مدة إمامته 33 عاماً (835–868) م، الحسن بن علي العسكري مدة إمامته 6 سنوات (868–874) م، محمد بن الحسن وهو الملقب بالمهدي (874 –...)، الذي يعتقد الشيعة يقينا بغيبته ورجوعه في آخر الزمان، كما يؤيدون دعواهم بأحاديث وردت أيضا في عدد من صحاح السنة، حيث يروي مسلم عن الرسول (ص) قوله: إن هذا الأمر - الدين - لا ينقضي حتى يمض فيهم اثنا عشر خليفة1، ويروي أيضا: لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا، وهو عدد نقباء بني إسرائيل في عهد موسى (ع)، و عدد حواريي عيسى (ع) الذين تكفلوا بنشر تعاليم المسيح في الآفاق بعد أن توفاه الله.
وهم يحتجون عقلا بكون الصحابة (رض) لم يكونوا جميعهم مؤهلين من الناحية العلمية للاجتهاد بمنطق الوحي في مسائل الشريعة والفصل بين الناس وفق ضوابطها بعد وفاة الرسول (ص)، ولذلك فقد أيد الله للناس لطفا منه2 وحتى لا يستبد الخلاف في الدين بين الناس أئمة من معين الدوحة النبوية لإرشادهم في المراحل الأولى قبل أن يتشرب الناس أصول دينهم ويتقنون أدوات الاجتهاد فيستغنون عن تأييد السماء، وهي الحلقة التي اختتمت بغيبة الإمام المهدي، والذي يعتقد الشيعة بولادته من أبيه الحسن العسكري الذي فرضت عليه الإقامة الجبرية في أواخر العصر العباسي، حيث ترك رسالة قبيل غيبته الكبرى لآخر وكلائه الأربعة يحث فيها شيعته إلى العودة فيما استعسر عليهم إلى فقهاء المذهب من بعده3، في حين يعتقد أهل السنة بولادة الإمام المهدي في آخر الزمان من أبيه عبد الله، حسب حديث يطعن الشيعة في متنه لمخالفته عقيدة الإمامة وسلسلة الأئمة عندهم، ومن عجيب ما وقفت عليه خلال التحقيق في هذا الأمر أن عددا من علماء السنة قد وافق قول الشيعة في الإمام المهدي، من أبرزهم ابن خلكان في وفيات الأعيان حيث يقول: "أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد المذكور قبله، ثاني عشر الأئمة الإثني عشر على اعتقاد الإمامية المعروف بالحجة.. كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين"4. والإمام الذهبي، إذ يقول في سير أعلام النبلاء: "المنتظر الشريف أبو القاسم محمد ابن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ابن زيد العابدين بن علي بن الحسين الشهيد ابن الإمام علي بن أبي طالب، العلوي، الحسيني خاتمة الإثني عشر سيّداً"5.
من جهة أخرى يتهم السنة الشيعة القول بتحريف القرآن معتمدين في ذلك على عدد من الأحاديث التي يفيد ظاهرها الزيادة أو النقص في آيات القرآن. بيد أن الطرف الآخر يرد جانبا من هاته الإتهامات بالطعن في أسانيد الأحاديث التي تفيد التحريف، وجانبا آخر إلى تأويلات طائفية تنافي حقيقة المقصود. كما يردون هذا الإشتباه إلى كون القرآن الذي كان يتواتره أهل البيت (ع) وشيعتهم الأوائل إنما كان يحتوي أيضا على تأويل آياته، فلم تكن هناك آيات زائدة بل هي فقط تأويلات. وعلم التأويل هو الذي اختص به رسول الله (ص) الإمام علي دون باقي الصحابة، وهو ما ينقلنا مباشرة إلى تفصيل آخر في نظرية الإمامة، يعتبره الشيعة من شروط اكتمال الإيمان لدى الموالين لأهل البيت (ع)، ألا وهو التصديق بعلم الأئمة، والذي لا يتوقف عند العلم بظاهر الشريعة، بل يتجاوزه إلى باطنها (أسرارها) وفق ما يسميه بعض الفقهاء بالعلم اللدني الذي ذكر في الآية 65 من سورة الكهف: "فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما" حيث يستشهدون بحديث للإمام علي (ع) يقول فيه: "فتح لي رسول الله ألف باب من العلم في كل باب يفتح لي ألف باب". ولذلك سميت بعض فرق الشيعة بالباطنية لإغراقهم في تأويل الباطن. وفي هذا يتقاطع الشيعة مع الصوفية اللذين يسحبون هذا العلم أيضا على شيوخهم.
ومن ذلك أيضا يأتي الإيمان بعصمة الأئمة ماداموا يمارسون دور المرجعية في موقع الرسول (ص)، حيث يؤيدون دعواهم في هذا الصدد بآية التطهير في قوله تعالى:"إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجز أهل البيت ويطهركم تطهيرا" والتي نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين في منزل أم سلمة (رض) كما ورد سبب نزولها في حديث الكساء الذي رواه مسلم في صحيحه6، ليسحب الشيعة مفعولها بعد ذلك على كل أئمتهم الإثنا عشر، بل إن بعض فقهائهم قد تمادوا في ذلك إلى أن رفعوا هؤلاء الأئمة إلى مراتب تفوق مراتب الملائكة والنبيين ففتحوا بذلك باب الغلو.
وفي مقابل ذلك يرفع أهل السنة نظرية عدالة الصحابة7 لمواجهة انتقادات الشيعة لبعض الصحابة الذين وقفوا في وجه الإمام علي وأهل بيته (ع)، وردا على ما سنه بعض المتعصبين من الشيعة من لعن هؤلاء الصحابة، رغم تصدي أئمة أهل البيت(ع) وعدد كبير من مراجع الشيعة قديما وحديثا لهاته الممارسات والمواقف التي تعمق الخلاف والفرقة بين المسلمين8. وفيما تبقى من الفروع المرتبطة بأصول العقائد فقد تباينت حولها الآراء بين الفريقين، حيث اختص بعرضها علم الكلام والذي شهد علاقة تأثير وتأثر بين مختلف المذاهب الإسلامية التي ازدهرت بالخصوص في أحضان الدولة العباسية..
من جهة أخرى فإن التشيع كمذهب فقهي لم تظهر معالمه إلا في عهد الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) سادس أئمة الشيعة، والذي يعود إليه الفضل في وضع أصول المذهب الذي سمي أيضا بالمذهب الجعفري نسبة إليه. وقد اشتهر الإمام جعفر الصادق (ع) بسعة معارفه وتنوعها وكان من بين تلامذته أئمة سنة من أبرزهم الإمام أبو حنيفة النعمان (رض)، والإمام مالك (رض) الذي كان يأخذ عنه الحديث. وقد عاصروا جميعا أواخر الدولة الأموية قبيل سقوطها وقيام الدولة العباسية التي استغل قادتها شعار الدعوة إلى آل البيت (ع) والرضا من آل محمد (ص) قبل أن يتنكر أحفاد البيت العباسي لبني عمومتهم من العلويين ويستأثروا دونهم بالسلطة.
ورغم هذا التواصل الذي عرفته الكثير من مراحل التاريخ الإسلامي بين فقهاء السنة وفقهاء الشيعة إلا أن أغلب المذاهب السنية كانت تعارض مذهب الشيعة في عدد من القضايا الفقهية التي تتعلق بأحكام العبادات والمعاملات رغم ورود أدلة في القرآن والسنة بشأنها، نذكر من أبرزها؛ زواج المتعة أو الزواج المؤقت الذي يعمل به الشيعة إلى اليوم، وقد وقفنا على تشريعه في أواخر الفترة المدنية قبيل وفاة الرسول (ص) حسب التفاسير السنية للقرآن وعدد من الأحاديث النبوية التي ورد بعضها في الصحاح9، ولم يمنع إلا بأمر عمر بن الخطاب (رض)، حيث جاء في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري (رض) أنه قال: "كنا نستمتع بالقبضة من التّمر والدّقيق الأيام على عهد رسول الله عليه الصّلاة والسّلام وأبي بكر حتّى نَهى عنه عمر"10، ليحرمه فقهاء الدولة الأموية ضدا على إباحته من طرف فقهاء الشيعة.
ومن ذلك الأخذ بمغنم الخمس، وهو دفع خمس المال لأصناف من الناس ورد ذكرهم في القرآن الكريم مصداقا لقوله تعالى: "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"11، حيث يرى السنة أن إخراج هذا الخمس إنما هو واجب على الكفار فقط في الركاز وغنائم الحرب، بينما يرى الشيعة أن الخمس يشمل أيضاً كل مال يغنمه المسلم زائد عن مؤونته السنوية، حيث يتدبر أئمتهم توزيع هذا المصرف على مستحقيه حسب الآية.
ومن ذلك المسح على الأرجل في الوضوء، حيث يرى الشيعة بوجوب المسح على الأرجل لأن الأمر بالمسح جاء متأخرا عن الأمر بالغسل ويشمل الرأس والأرجل حسب الآية: "يا أيّها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم الى الكعبين"12، ومن ذلك تبديع صلاة التراويح عند الشيعة وقد كانت تصلى مثنى مثنى في البيوت على عهد الرسول وعهد أبي بكر حتى جاء عمر (رض) فجمع الناس ليصلونها جماعة وكان يقول: "إنها بدعة ونعمت البدعة"13.
من جهة أخرى يتعصب الشيعة لبعض السنن و الطقوس التي ابتدعها فقهاؤهم كإضافة الشهادة بولاية علي في صيغة الأذان الأصلية ردا على سب الإمام علي بن أبي طالب (ع) على منابر الأمويين لردح من الزمن14. كذا الغلو في بعض طقوس إحياء عاشوراء بسن بعض المظاهر الإحتفالية كالتطبير(جلد الذات) مما يسيء إلى صورة مذهب أهل البيت(ع) بل إلى الإسلام كدين يحترم العقل ويروم حفظ النفس.
ومن ذلك مبالغتهم في استخدام التقية (رغم وجود أدلتها في القٍرآن والسنن15) حتى ظن البعض أنها من قوام الدين عندهم وأركان العقائد، وما كانت في البداية إلا خيارا اضطراريا لحفظ النفس بكتمان المذهب، وذلك بتوجيه من أئمتهم بعد أن أوغل الأمويون وبعدهم العباسيون في دماء القوم وأمعنوا في اضطهادهم والتنكيل بهم. وقد كانوا عصب المعارضة السياسية في تلك العهود وقاد رموزهم الكثير من الثورات ضد هاته الأنظمة التي مارس حكامها الإستبداد باسم الدين.
ومن ذلك حصر سجودهم في الصلاة على التربة الحسينية المجففة حتى اتهمهم البعض بالسجود للحجر!! وكان من الممكن تفادي مثل هاته الشبهات والإكتفاء بالسجود على حصير طاهر16 مما تنبت الأرض انسجاما مع غاية الحديث النبوي الشريف: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا"17 وكذا فتاوى فقهاءهم في هذا الشأن..
وهكذا يتبين من خلال هذه الأمثلة بأن الأمر لا يعدو كونه عنادا وتعصبا يمكن تجاوزه بالحوار والإنفتاح على الآخر بروح أخوية متسامحة من أجل بناء جسور الثقة المهتزة بين الطائفتين خاصة وأن نسبة التوافق بينهما تفوق بكثير نسبة الإختلاف، ولو أن بعض الدوائر الطائفية تحاول إظهار العكس!!
آفاق الحوار المذهبي:
لقد تعايش الشيعة جنبا إلى جنب مع إخوانهم السنة في كنف الدولة الإسلامية المزدهرة، وكانوا حاضرين في كل المجالات والفضاءات. في مواطن الإجتهاد والفتوى، وفي ميادين العلم والأدب، وفي ساحات الجهاد والنضال.. بل إن من شيوخ السنة من تتلمذ على أئمة الشيعة كالإمام أبو حنيفة النعمان (رض) الذي تتلمذ على يد الإمام جعفر الصادق (ع) الذي وضع أصول مذهبهم، حتى كان يقول: "لولا السنتان لهلك النعمان" يريد السنتين اللتين صحب فيها الإمام جعفر الصادق (ع) لأخذ العلم18. وقد كان الإمام مالك (رض) يحترمه ويجله إذ يقول فيه: اختلفتُ إلى جعفر بن محمد زماناً فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال: إما مصلّياً و إما صائماً و إما يقرأ القرآن، و ما رأيته قط يُحدِّثُ عن رسول الله إلاّ على الطهارة، و لا يتكلم بما لا يعنيه، و كان من العلماء العبّاد و الزهاد الذين يخشون الله19.
والكثير من العلماء والشعراء والقادة ممن خلد التاريخ أسماءهم كانوا على مذهب الشيعة كالفرزدق والكميت بن زيد و دعبل الخزاعي وصفي الدين الحلي والأمير أبو فراس الحمداني والشريف الرضي.. ومن الفلاسفة والعلماء ابن سينا وجابر ابن حيان ويعقوب بن إسحاق وأحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه.. ومن القادة التاريخيين المعز لدين الله الفاطمي الذي بنى مدينة القاهرة بمصر واتخذها عاصمة لدولته، وشيد فيها جامعة الأزهر الشريف التي فتحت أبوابها لكل المذاهب الإسلامية دون تمييز، والمولى إدريس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (رض) الذي لجأ إلى المغرب بعد معركة فخ ضد العباسيين في المشرق، وأسس هناك أول دولة مستقلة عن الخلافة العباسية في هذا القطر، وفي عهد الأدارسة بنيت جامعة القرويين التي كانت تعد مفخرة علمية بأرض المغرب..
وفي التاريخ الحديث، برز في العراق آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (ق س) الذي استفاد المسلمون بمختلف طوائفهم من أبحاثه القيمة خاصة في الفلسفة (كتاب فلسفتنا) في مواجهة الأطروحات المادية الليبرالية والإشتراكية، والإقتصاد (كتاب إقتصادنا) و(البنك اللاربوي الإسلامي) الذي تبنت رؤيته فيما بعد عدد من الدول الإسلامية لإطلاق مبادرة الأبناك الإسلامية. وقد قام السيد موسى الصدر بتعبئة الشيعة والسنة وحتى المسيحيين في حركة المحرومين بلبنان وأخرج من هاته الحركة أفواج المقاومة اللبنانية (أمل) لصد العدوان الإسرائيلي على لبنان فأشعل بذلك شرارة المقاومة اللبنانية ضد إسرائيل. وقد كان الدكتور علي شريعاتي بأفكاره الجريئة وتحليلاته العميقة من أبرز المنظرين للثورة الإيرانية التي أوقد الإمام الخميني شرارتها فيما بعد.
وعلى مر التاريخ الإسلامي، لم يتوقف التواصل والحوار بين فقهاء ومتكلمي الشيعة والسنة، بالرغم من الإتهامات المتبادلة والصراعات التي لم تتوقف أيضا على مر هذا التاريخ نتيجة الإحتقان الطائفي الذي كانت ومازالت تذكيه بعض العناصر المتطرفة لدى الفريقين، خاصة خلال الفترة الراهنة بعد تردي الأوضاع في الشرق الأوسط وتوتر العلاقات السعودية الإيرانية على خلفية الحرب في كل من سوريا والعراق واليمن.
فمن جهة السنة تقف الأطروحات السلفية الوهابية على النقيض من كل ما يمت للشيعة بصلة إلى حد تكفيرهم، ومن جهة ثانية مازال بعض غلاة الشيعة يعزفون على عدد من الأوتار الحساسة لدى أهل السنة والجماعة، خاصة فيما يتعلق بذكر مثالب عدد من الصحابة المبجلين عند القوم كأبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية إلى حد سبهم علانية.
ورغم كل هذا مازالت الآمال قائمة للتواصل والوحدة وتجاوز خلافات الماضي، تزكيها تجارب من العصور الذهبية للمسلمين عندما كانت الخلافات في الرأي لا تفسد للود قضية، أو حتى خلال الفترة المعاصرة خاصة بعد الجهود التي قام بها عدد من كبار العلماء من أجل تقريب وجهات النظر بين الفريقين، كمحاولات رائد النهضة السيد جمال الدين الأفغاني للتوفيق بين وجهات النظر المختلفة بين علماء المسلمين بغض النظر عن مذاهبهم، وكتجربة الرسائل المتبادلة بين العالمين الجليلين السيد سليم البشري وقد ترأس مشيخة الأزهر لمرتين، والسيد شرف الدين الموسوي العاملي الذي كان مرجعا للشيعة في جبل عامل بلبنان خلال فترة الثلاثينيات. حيث تم جمع هاته الرسائل في كتاب تحت عنوان "المراجعات" فصل في الكثير من الحقائق الغائبة حول هذا الخلاف، مما دفع شيخ الأزهر محمد شلتوت فيما بعد إلى الإفتاء بجواز التعبد بالمذهب الجعفري الذي يدين به الشيعة الإمامية، وفتح أقسام في الأزهر لتدريس كل من المذهبين الإمامي والزيدي الشيعيين، لتتأسس على إثر ذلك "جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية" التي بذلت الكثير من الجهود لتضييق دائرة الخلاف والتأسيس للوحدة الإسلامية. ولولا تدخل البعض من أصحاب المصالح الخفية والعقائد المتطرفة لإفساد سيرورة هذا التواصل لعم التوافق كل بلاد العالم الإسلامي، ولما كنا نعيش اليوم هذه الصراعات والحروب الطائفية التي أعادت المسلمين قرونا إلى الوراء..
لقد طال هذا الصراع المذهبي أكثر مما يجب وهو لا و لم ولن يخدم في أي وقت من الأوقات ديننا الحنيف، بل على العكس من ذلك كان سببا لبث الفرقة و التناحر بين أبناء الدين الواحد والوطن الواحد ومنفذا يسيرا لأعداء الإسلام والمسلمين.
فمتى يحين الوقت لندع هذا التعصب الأعمى، ونترك للعقل المتنور والفكر الحر بحيادية وتجرد إيجاد الحلول المناسبة للخروج من هذا المأزق التاريخي؟
ألم يحن الوقت بعد لفتح حوار جاد و مسؤول بين ساسة هذه الأمة وعلمائها وعقلائها من أجل تجاوز هاته الخلافات التاريخية التي أصبحت تهدد استقرار وسلامة الأوطان بعيدا عن التجديف والتهريج الذي تقوم به بعض المنابر و الفضائيات الطائفية؟ وذلك على أساس الإحترام المتبادل الذي هو من شيم العلماء من أجل بناء أرضية حقيقية للوحدة الإسلامية بين السنة والشيعة والتي يقوم المتعصبين والحاقدين والجهال بالترويج لاستحالتها خلافا لما يدعو إليه القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة آل عمران:
﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)﴾ صدق الله العظيم
1- إحتار علماء السنة في أسماء هؤلاء الإثنا عشر، حيث عدوا منهم الخلفاء الأربعة وعدد من خلفاء بني أمية وبني العباس
2-مصطلح إستقاه الشيعة فيما بعد من المعتزلة.
3- أنظر كتابي الشهيد محمد صادق الصدر؛ تاريخ الغيبة الصغرى وتاريخ الغيبة الكبرى.
4- وفيات الأعيان : 4/176، 562.
5-سير أعلام النبلاء : 13/119، الترجمة رقم 60.
6- أنظر مسلم كتاب فضائل الصحابة، مناقب علي وآل البيت (ع).
7- في تعريف أهل السنة للصحابي يدخل بعض أهل السنة كابن حجر العسقلاني كل من رأى النبي(ص) أو سمعه أو أو جالسه.. ويفتح هذا التعريف الباب لإدخال المنافقين أيضا مع الصحابة ممن نزل القرآن يقرعهم في أكثر من آية.
8- أنظر فتوى السيستاني: https://www.youtube.com/watch?v=1SXzPDnyJHA
وفتوى الخامنائي: http://www.hespress.com/international/23913.html
وفتوى محمد حسين فضل الله: http://www.yasour.org/news.php?go=fullnews&newsid=12342
9- أنظر صحيح مسلم والبخاري وسنن البيهقي وانظر تفسير القرطبي لقوله تعالى في سورة النساء (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) وانظر تفسير الخازن وروح المعاني للآلوسي وتفسير ابن كثير وكتب الفقه.
10- رواه مسلم في صحيحه، عن جابر بن عبد الله، رقم الحديث:1405.
11- سورة الأنفال-الآية 41-
12- سورة المائدة -الآية 6- وقد وافقهم على ذلك عدد من علماء السنة كالسرخسي في المبسوط 8/1 ، وشرح فتح القدير 1/11، والمغني لابن قدامة 1/151 في الفقه الحنفي، وتفسير الرازي 11/161، وتفسير القاسمي6/1894..
13- أنظر البخاري ومسلم كتاب الصلاة.
14- يعترف فقهاء الشيعة بهذه الزيادة، وبكونها ليست من الألفاظ الأصلية للأذان، ويحتجون على أهل السنة الذين يستنكرون هذه الزيادة بإضافتهم لجملة "الصلاة خير من النوم" في أذان الفجر.
15 -أنظر تفاسير الآية 28 من سورة آل عمران، و انظر قصة عمار بن ياسر عندما عذبه كفار قريش حتى شتم النبي (ص) ولما قابله وحكى له، قال له (ص): "إن عادوا فقل لهم ذلك"-الدر المنثور للسيوطي 4/132.
16- كانت المساجد في المغرب تستعمل الحصير كأفرشة عوض الزرابي اليوم التي عوضت الحصير في بداية الثمانينيات.
17- أنظر صحيح البخاري 1/149 ح2، 1/190 ح98، صحيح مسلم 2/63، سنن الترمذي 2/131 ح317، سنن النسائي 2/56، سنن أبي داود 1/129 ح489، مسند احمد 2/240، ح250.
18- مختصر التحفة الاثني عشريّة:8.
19- مالك بن أنس، للخولي: 94، كتاب مالك لمحمد أبو زهرة: 28، نقلاً عن المدارك للقاضي عياض: 212.
محمد أكديد
باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية