يمكن لظاهرة العزوف السياسي، المتسعة نطاقا في مجتمعاتنا العربية الإسلامية المعاصرة، أن تجد مبدأ تفسيرها في طائفة واسعة من العوامل كفقدان ثقة المواطنين بالمجتمع السياسي: سلطة وأحزابا، أو كفقدان الثقة بالسياسة كسبيل إلى التنمية والتقدم وتحسين الأوضاع العامة، أو بسبب اليأس من إمكانية التغيير، أو بسبب ضعف الثقافة السياسية في المجتمع، وسوى ذلك من العوامل الموضوعية السياسية والنفسية التي تحمل الناس على الإضراب عن السياسة في وجوهها المختلفة.
وقد يأخذ هذا الإضراب شكل استنكاف متماد عن المشاركة السياسية من جنس الامتناع عن الانتماء السياسي إلى الأحزاب والمنظمات السياسية، وهذا هو الغالب على السلوك العام للمواطنين، أو من جنس عدم المشاركة بالتصويت في الانتخابات والاستفتاءات العامة، كما قد يأخذ – عند الفئات المتعلمة- شكل مواقف عدمية من الحزبية ومن الظاهرة الانتخابية مع ما يرافق ذلك من الدعوة إلى الإحجام عن التصويت ومقاطعة الاقتراع. لكن النتائج، في الأحوال كافة، هي عينها وإن اختلفت الأسباب والدوافع.
قلنا إن في الوسع تفهم جملة العوامل والأسباب الحاملة على إضراب المواطنين عن السياسة. غير أنه ليس في الوسع تبرير هذا السلوك الانكفائي السلبي لفداحة النتائج التي يفضي بالمجتمع إليها. لكي نكون أكثر دقة ولا نصطدم بالمبدإ الأساس في الديمقراطية وهو حق المواطن في الاختيار الحر المستقل، نقول : في وسعنا أن نسلم بحق الناس في عدم الانتماء الحزبي، لأن هذا –بكل بساطة- ليس شرطا من شروط المواطنة تسقط بغيابه، لكنا نملك أن نجادل في سلامة العزوف عن المشاركة في الانتخابات: المحلية والوطنية، مثلا، وفي الأضرار العديدة التي يستجرها عدم المشاركة فيها تحت أي عنوان وبمقتضى كل حسبان.
قد لا تكون شروط الانتخابات محط رضا أو مدعاة لارتياح قطاعات واسعة من المجتمع والرأي العام، إما بسبب ما يعتور قانون الانتخاب من شوائب، أو بسبب انعدام الضمانات بنزاهتها وحياد الإدارة فيها، أو بسبب افتقارها إلى آلية إشراف محايدة ومستقلة أو قضائية، أو بسبب آليات الإفساد التي تحكمها مثل المال السياسي والعصبية الأهلية والمناطقية، أو بسبب عدم الرضا عن البرامج الانتخابية للأحزاب والكتل المتنافسة...الخ، لكن مواجهة هذه الشروط النابذة، أو غير الجاذبة، بسياسة انكفائية مثل الدعوة إلى المقاطعة، أو مثل ممارسة هذه المقاطعة على مقتضى اللامبالاة وبمعزل عن أية قناعة سياسية، لا يمكنه إلا أن ينتج تبعات سياسية ضارية السوء على المجتمع والسياسة وعلى مستقبل النضال الديمقراطي.
ومن النافل القول إن المقاطعة سلاح سلبي ليس من فائدة ناجمة منه سوى تسجيل موقف للتاريخ، ذلك أنها لا تغير شيئا من الواقع السياسي، فالانتخابات تجري ويعلن عن نتائجها، حتى لو شارك فيها خمس الناخبين، والمؤسسات التمثيلية التي أفرزتها عملية الاقتراع تقوم وتباشر عملها كمؤسسات شرعية، وقد يلجأ إليها المقاطعون أو يطلبون منها غدا تفعيل دورها في مراقبة السلطة والاحتساب عليها، أو لإصدار قوانين يطالبون بها. والمقاطعون، في الأحوال كافة، يتجاهلون أنهم شاركوا في صنع تلك النتائج، بعجرها وبجرها، حين أجمعوا عن المشاركة في الإقتراع وحين لم يختاروا السبيل الأكثر تشبعا بروحية التراكم الديمقراطي، وهو الحد من الخسائر وتحسين شروط قوى التقدم في المؤسسات. بل لعلهم لا يدركون أن موقف الإحجام عن المشاركة عندهم هو أفضل وأثمن هدية سياسية يقدمونها للقوى المعادية للديمقراطية، حيث يرفعون عنها عبء المنافسة ويفتحون أمام ممثليها طريق السيطرة على المؤسسات بيسر كبير !
وإلى ذلك فإن من يقاطع لا يمكن إلا أن يكون خائفا من المنافسة. القوي لا يقاطع عادة لأنه قوي، ويملك الثقة في النفس، ويعرف كيف يدافع عن أصواته وحقوق مرشحيه بجمهوره ووزنه السياسي، وكيف ينقل المعركة السياسية إلى داخل المؤسسات فيوفر لمطالب جمهوره والشعب حيزا وصوتا ناطقا في مواجهة مطالب قوى المصالح. إنه لا يقاطع بدعوى أن شروط المشاركة غير متوفر، لأنه يؤمن بأنها لن تتوفر من تلقاء نفسها، ولا من طريق منة تمن عليه بها السلطة، وبأن عليه هو أن يوفرها وأن يفتح الطريق إليها: من داخل المؤسسات ومن خارجها. لا تكون المقاطعة ناجعة وذات أثر إلا متى كان الداعون إليها أقوياء، وذوي قاعدة شعبية معتبرة، وقادرين على وضع النظام السياسي في أزمة شرعية بمقاطعتهم مؤسساته، أما حين يكونون – مثلما هم- معارضين متواضعي القوة والإمكانية والتمثيل، فلا معنى لمقاطعتهم غير إخفاء ضعفهم وقلة حيلتهم ومحاولة البدو –ولو إعلاميا- بمظهر المبدئي الحازم !
من يخشى المشاركة يخشى رأي الشعب فيه ويصطدم بأهم مبدإ تقوم عليه الديمقراطية: ممارسة الشعب السلطة – وهو مصدرها- من مدخلها الابتدائي وهو الاقتراع، أي الفعل السياسي والمؤسسي الذي تتجسد فيه الإرادة العامة والحقوق السياسية المترتبة عن المواطنة. الديمقراطيون الحقيقيون يثقون بالشعب وبحسن خياراته ويحتكمون إليه، ويرضون بما اختاره حتى لو أتى يعاكس مصالحهم. وإذا ما الشعب صوت لخصومهم ولم يصوت لهم، فعليهم أن يحاسبوا أنفسهم أولا، قبل أن يضعوا الملامة عليه، لأنهم لم يقنعوه بأفكارهم وبرامجهم وأطعموه شعارات لا تشبع، فازور عنهم ازورارا باحثا لنفسه عمن يمثله. قد يخطئ، لكنه قطعا يتعلم من أخطائه فعسى أن يتعلم المقاطعون العقائديون من أخطائهم.
المصدر: عبد الإله بلقزيز