مقدمة:
كثيرة هي الشبهات والمغالطات التي يروجها خصوم الشيعة عن مذهبهم وتاريخهم مما امتلأت بها كتب الأقدمين والمحدثين ممن نقل عن الأوائل أو أخرج من كيسه تهما جديدة بز بها سابقيه ومعاصريه. بيد أن التحقيق الرصين في هاته المواقف والأحكام يظهر بأن أغلبها يفتقد إلى حس الموضوعية والإنصاف سواء لأسباب ذاتية أو موضوعية كالتعصب للمذهب الذي كرسته السلطات التاريخية من خلال الإنتصار لمذهب دون آخر واضطهاد أتباع التيارات والمذاهب المخالفة بدءا من الأمويين، وتجاوز الخلاف بين الفقهاء في بعض المسائل العقدية أو الفقهية حدود اللياقة والأدب إلى ترتيب أحكام وفتاوى تدعو إلى تكفير المخالف.
وإلى حد اليوم ما زالت تمارس الأيديولوجيا الموجهة باستخدام البروباغندا الإعلامية دورها بإتقان في توجيه المتطرفين من مختلف الطوائف لإقناع المسلمين بعمق اختلافاتهم وباستحالة و حدتهم ما لم يسلم فريق بكل ما يتبناه الفريق الآخر من اجتهادات ومواقف وأحكام يرتبط أغلبها للأسف بسياقات تاريخية عف عنها الزمن.
هكذا تندلع شرارة الطائفية في العالم العربي الإسلامي خاصة بين السنة والشيعة ليتسع نفوذ المتطرفين بعد أن نجحت أسطواناتهم المشروخة في إقناع المسلمين البسطاء بحججهم في تكفير الآخر وشيطنته، حيث تمتلئ اليوم الفضائيات ومواقع وشبكات التواصل في العالم الافتراضي بكل أنواع التهم الرخيصة والمشاهد المنحرفة التي قد تصدر عن بعض الأتباع الجهلة أو المتطرفين في كل المذاهب والملل لبث الأحقاد والفتن بين المسلمين وتسعير حروب طائفية أصبحت اليوم تهدد استقرار ووحدة الأوطان العربية والإسلامية وتعايش أهلها من مختلف طوائفهم وأعراقهم مما لم يعد السكوت عنه مجديا.
شبهات مردودة:
لقد كان الدافع من وراء كتابة هذا المقال التعليقات المستفزة التي تواكب كل مقال أو خبر ينشر حول الشيعة المغاربة، والتي تحمل الكثير من المغالطات حول أصل الشيعة والتشيع مما ينم عن جهل فاضح لدى أغلب المعلقين بتاريخ الخلافات المذهبية بين المسلمين وتطور المدارس الكلامية والفقهية من جهة، وبهيمنة فكر الإقصاء والتطرف لديهم من جهة أخرى، هذا الفكر الذي يرى الآخر المختلف عنه تهديدا له وعدوا يجب محاربته وإقصائه إلى أن دعا بعض ممن يسمون أنفسهم بالفقهاء -وهم إلى دعاة الفتنة أقرب- إلى سحب كل حقوق المواطنة، بل الجنسية المغربية من كل من اعتنق مذهب الشيعة، ولم لا إرسالهم إلى إيران؟؟ وهذا لفرط جهلهم بتاريخ هذا المذهب العربي الأصيل، والذي يعود في منهجه وأصوله إلى أئمة أهل بيت الرسول (ص) قبل أن يعتنق الفرس (الإيرانيون اليوم) الإسلام ويتبنون هذا المذهب بقرون، فضلا عن تعايش الشيعة العرب مع إخوانهم من السنة في عدد من الدول العربية كالعراق والبحرين حيث يشكلون أغلبية أو سوريا ولبنان واليمن والسعودية وغيرها بنسب متفاوتة.
ونتوقف بداية عند مصطلح "الشيعة" الذي يعني لغة "الأتباع"، وقد اشتهر به أتباع أهل بيت الرسول (ص) ممن نصروا عليا في كل مواقفه وحروبه ضد خصومه سواء من القرشيين أو من الأمويين، وذلك إيمانا منهم بعدالة قضيته وبمكانته التي أهله إليها القرآن والسنة، كقوله تعالى: "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويوتون الزكاة وهم راكعون"1 وقوله (ص): "علي مني وأنا منه".. وقد استمرت هذه النصرة غير المشروطة لعقبه من أحفاد البيت النبوي رغم كل ظروف القهر والاضطهاد التي عانى منها هؤلاء الأتباع المخلصين خاصة في ظل الدولتين الأموية والعباسية، حيث اجتهد سلاطينهما ومن سايرهم من فقهاء البلاط في إقصاء القوم والتشنيع على مذهبهم بكل السبل والوسائل. وهكذا بدأت صياغة التهم والإفتراءات الجاهزة، وسحبها على جميع أتباع هذا الخط دون استثناء، ودون مراعاة للمبدأ القرآني "ولاتزر وازرة وزر أخرى" ليتم تبرير الكثير من المجازر وحروب الإبادة التي تعرض لها القوم عبر التاريخ بفتاوى رعناء من بعض فقهاء التكفير، مازالت معاولها للأسف تنقض كل أواصر الأخوة والتعايش بين المسلمين إلى اليوم !!
فمن ذلك نسبة الشيعة إلى رجل يهودي مجهول ورد اسمه في بعض التواريخ، وهو عبد الله بن سبأ الذي يردون إليه القول بوصية رسول الله (ص) لعلي بالإمامة، مع أن الكثير من العلماء والمحققين من الشيعة والسنة القدماء والمحدثين 2قد وقف على بطلان هذه الفرية من عدة وجوه. فقد نقلها الطبري عن سيف بن عمر التميمي دون ترو -وهو راو مشهور بالكذب- الذي اختلقها خدمة لأسياده الأمويين، ولم يأت ذكره هذه الشخصية الوهمية في تاريخ معاصريه كالبلاذري صاحب أنساب الأشراف أو من سبقه كنصر بن مزاحم في وقعة صفين، فضلا عن غياب أي خطب أو أقوال أو رسائل لهذه الشخصية مما لابد أن يكون متواترا توافقا مع الدور الذي أسنده إليه بعض المؤرخين ونقال الأخبار في أسفارهم كابن كثير وابن الأثير والمقريزي الذين أخذوا جميعا عن الطبري ومن جاء بعدهم من المحدثين ونقل عنهم هاته الفرية ليطعن في دين القوم وعقائدهم فيما بعد3.
ومن ذلك ما يروى شفاهة بأن الشيعة يقولون بأن أمين الوحي جبرائيل قد أخطأ في تبليغ رسالته، وعوض أن يوحي بالأمر إلى علي (ع) أوحى إلى محمد (ص) فخان بذلك أمانته؟؟ وكأن هذا الأمر على فرض وقوعه لا يمكن تصحيحه -وهو أمر يثير الضحك ويخالف شهادة القرآن في الملائكة "لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون"- وكتب العقائد لدى الشيعة تجمع على الإيمان برسالة محمد (ص) والأنبياء الذين سبقوه وبالقرآن الكريم كتابا غير محرف وبالمعاد وكل ما يتعلق به من الغيبيات، لا تختلف عما يعتقده أهل السنة إلا برفع ولاية أهل البيت (ع) إلى مرتبة الأركان في العقائد، وقد رفع بعض فقهاء أهل السنة أيضا الإيمان بالقدر خيره وشره، وعدالة الصحابة إلى هذه المرتبة.
ومن ذلك اتهام القوم بتحريف القرآن، مع أن فضائياتهم اليوم ومواقعهم الإلكترونية وإذاعاتهم تعرض نفس القرآن المتفق عليه بين المسلمين، وفقهاءهم ودعاتهم يحتجون بنفس هذا القرآن دون زيادة أو نقصان رغم اختلاف تفاسيرهم وتأويلاتهم التي قد تصل إلى حد الغلو أحيانا، مما تبرره بعض الإجتهادات المنحرفة أو الأحاديث المختلقة داخل المذهب مما لا يخلو منه دين أو مذهب.
ومن ذلك سحب تهمة سب الصحابة على كل الشيعة، بالرغم من فتاوى الكثير من مراجعهم المعاصرين4 تحرم هذا الأمر الشائن الذي لا يمت لخلق المسلم بصلة، وقد نهى الإمام علي (ع) أصحابه عن سب خصومه ممن كان يقاتل في صف معاوية يوم صفين وكان الأئمة من آل البيت (ع) ينهون أصحابهم عن هذا. ولا يعتد بما يقوم به بعض دعاتهم المتطرفين كياسر الحبيب الذي يقيم في لندن ويسير قناة فدك الفضائية يسب من خلالها الصحابة ويطعن في شرف أم المؤمنين عائشة (رض) في نوع من التهريج الموجه لإثارة النعرات الطائفية بين المسلمين وفق أجندات مشبوهة.
يأتي في نفس السياق مجموعة من التهم و الإفتراءات التي تستهدف الكثير من مظاهر الإختلاف مع القوم في الممارسات والطقوس التعبدية أو الأحكام والمعاملات أو التقاليد والعادات، لتتجاوز بذلك الخلافات بين السنة والشيعة أبواب العقيدة والتشريع والممارسات المرتبطة بهما إلى خلافات في المنهج والرؤية عملت السياسة والمصالح الضيقة على تعميقها على امتداد التاريخ الإسلامي لتحدث شرخا ما زال المسلمون يعانون نتائجه إلى اليوم.
البدايات السياسية:
الكثير من الباحثين في مجال التاريخ الإسلامي يعود بظهور الشيعة كفرقة على مسرح الأحداث إلى ظروف الحرب التي نشبت بين الخليفة الرابع علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان حول الخلافة، وذلك بعد أن حمل معاوية عليا دم الخليفة الثالث عثمان بن عفان الذي حاصره الثوار ثم قتلوه بعد أن أنكر الناس في عصره عددا من الأمور التي لم يألفوها في عهد من سبقوه من الخلفاء، فاتهمه بإيواء قتلته ونصب نفسه وليا لدم الخليفة المقتول واعتمد في حربه ضد الإمام علي بالدرجة الأولى على أهل الشام بعد أن وطد فيها نفوذه خلال عشرين سنة حكمها كوال بعد وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان، في حين وقف الثوار إلى جانب الإمام علي مع عدد كبير من الصحابة الذين كان بعضهم يرى أحقيته في الخلافة حتى في زمن الخلفاء الذين سبقوه. ومن هنا يحتج تيار آخر من الباحثين يتقدمهم فقهاء ومحققو الشيعة في الدفاع عن أطروحة ولاية أهل البيت (ع) -يتقدمهم الإمام علي- وأحقيتهم في خلافة الرسول (ص) وذلك بإيراد عدد من الأدلة النصية والعقلية..
لماذا علي؟
هناك عدة ملامح رئيسية لشخصية الإمام علي يتميز بها عن باقي القوم، فهذه الشخصية قد تربت على يد الرسول (ص) وارتوت من معين علمه، وهذا أمر له دلالته وانعكاساته على شخصية الإمام، فتربية الرسول (ص) له ثم مصاهرته يزكي في نظر مؤيديه اصطفاءه للقيام بأدوار طلائعية بعده. فكما أن الرسول تم اصطفاؤه من قبل الله تعالى لحمل رسالته فإن عليا أيضا تم اصطفاؤه لخلافة الرسول (ص)..
ومن النصوص التي تؤيد هذه الأطروحة نجد حديث "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي"5 وحديث "علي مني وأنا منه"6 وقول الرسول (ص) يوم خيبر له "لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فلما كان الغد دعا عليا فدفعها إليه"7 ومن القرآن الذي نزل في حق علي شموله قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)8، كما أثبت الإمام علي جدارته العلمية بتفوقه على جميع الصحابة، حيث لم يضاهيه في ذلك أحد حتى أن عمر الذي يشهدون له بالفقه والعلم شهد لصالح علي وأقر بتفوقه عليه9 وقد جاء في ذلك قول الرسول (ص) في حقه "أنا مدينة العلم وعلي بابها" 10
ويبقى حديث الغدير من أبرز الأدلة التي يتمسك بها الشيعة في خلافة علي للرسول (ص)، فقد سمع كل الصحابة رسول الله (ص) يقول لعلي يوم غدير خم: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأولادهم قالوا: بلى، فقال: "اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" 11
حيث يرى الشيعة بمقتضى هذا الحديث بأن النبي (ص) قد ولى عليا قبيل وفاته على المسلمين في بيعة جامعة حضرها أيضا كبار الصحابة، وذلك قبل افتراق الحجيج في مكان يقال له غدير خم، وهو موضع ماء يقع في واد بين مكة والمدينة توقف فيه الرسول (ص) حين عودته من حجة الوداع وخطب فيه خطبة طويلة خص جزء منها بالإمام علي وبأهل بيته (ع) وهم حسب الإصطلاح الشيعي؛ علي وفاطمة والحسن والحسين. بيد أن عدد من المهاجرين والأنصار كان لهم رأيا آخر، فبمجرد وفاته (ص) اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليلتحق بهم فريق من المهاجرين..وعاد المنطق القبلي ليتحكم في أهواء الحاضرين، حيث جرت أمور لم تكن محل إجماع المسلمين..
بيعة السقيفة:
يروي النويري أن عمر لما أتاه الخبر ذهب إلى أبي بكر فوجده مشغولا. فأرسل إليه أنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره. فخرج إليه فقال: أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة يريدون أن يولي هذا الأمر سعد بن عبادة. وأحسنهم مقالة من يقول منا أمير ومنكم أمير.فخرجا مسرعين نحو السقيفة وجمعا في طريقهما عددا من المهاجرين وتنازعوا بين الذهاب، أو حسم الأمر بينهم دون الأنصار. ثم قرروا الذهاب.. قال عمر: والله لنأتينهم..وخطب أبي بكر في أهل السقيفة قائلا: إن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أواسط العرب دارا ونسبا.. وصاح أحد الأنصار: منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش..وارتفعت الأصوات وكثر اللغط. وهنا أصدر عمر قراره لأبي بكر: أبسط يدك نبايعك: فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون. وبايعه الأنصار. ثم نزوا على سعد.حتى قال قائلهم: قتلتم سعد بن عبادة. فقال عمر: قتل الله سعدا 12
لقد كانت لهذه الحادثة التي رواها عدد آخر من المؤرخين الثقات، نتائج وخيمة بعضها ظهر في حينه كامتناع عدد من القيادات السياسية خارج المدينة عن دفع أموال الزكاة للخليفة الجديد، حيث عد ذلك طعنا منهم في شرعيته بعد أن تم إقصاءهم وتهميش آراءهم في الأمر، وبعضها تأخر ظهوره وإن كانت له بوادر لم تتم، وهو ما مثلته المعارضة الداخلية التي اصطفت خلف علي بن أبي طالب، ولو أنه قد تنازل في نهاية الأمر عن المطالبة بهذا الحق حرصا على وحدة المسلمين وبايع أبا بكر بعد وفاة زوجته فاطمة الزهراء بنت الرسول (ص) والتي وقفت بكل قواها في وجه الخليفة الأول أبي بكر وصاحبه عمر خاصة بعد أن منعاها من فدك 13 وعمدا إلى تسليح جيش الردة بموارد هذا الفيء، حيث احتج عليها أبو بكر لما طالبته بحقها في فدك بقوله: سمعت رسول الله (ص) يقول: نحن معشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة..أنظر مسلم كتاب الجهاد والسير والبخاري 14.
ورغم رضوخ علي ومن تشيع له - تابعه- من الصحابة15 خلال هاته المرحلة للأمر الواقع إلا أن الأمور لم تقف عند هذا الحد، خاصة بعد أن ولى أبو بكر عمرا على المسلمين بعد وفاته دون أن يستشير أحدا، مما كاد يعصف مرة أخرى بوحدة المسلمين لولا أن تدارك عقلاء الصحابة الأمر مراعاة لهاته الوحدة، ونظرا للظروف الطارئة، حيث كان الجيش الإسلامي يواجه جيش الفرس في معركة القادسية.
ولو أن السياسة لم تفسد الود بين كبار الصحابة، إلا أن عليا وعددا من أصحابه كانوا عادة ما يعتزلون اجتماعات القوم ويتهربون من أعمالهم، فلم يتول أحد منهم لأبي بكر أو لعمر ومن بعدهما عثمان ولاية، ولم يتقدم أحدهم لمنصب سياسي أو إداري، وبعضهم خرج من المدينة كبلال بن أبي رباح ومات في أرض أخرى. بل إن عليا ورغم شهودهم له بالعلم الوفير لم يكن يخطب في المسجد وآثر العزلة على مخالطة القوم خاصة بعد وفاة الزهراء ريحانة رسول الله (ص) وأم ولديه الحسن والحسين، ولو أنه لم يكن يمتنع عن تقديم المشورة لهم كلما استعصى عليهم أمر فيما كان يستجد من أحوال المسلمين..
علي وعثمان:
لم تسؤ الأمور بين علي والخلفاء إلا في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان الذي كان أول من احتجب في قصره عن الناس، ولم تعد الصلة بينه وبين علي وعدد من الصحابة على ما يرام بل تجاوز الأمر إلى التنكيل ببعض الصحابة كعمار بن ياسر الذي حمل له بعض مطالب الناس ودعاه إلى تغيير سيرته والابتعاد عن بني عمومته من بني أمية، وأبو ذر الغفاري الذي شكاه له معاوية بالشام بعد أن أرهقه بمواقفه القوية، فكان يدعوه إلى إخراج الأموال إلى الفقراء ويتلو على الملأ علانية قوله تعالى: " وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(35) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) " سورة التوبة . يقصد بذلك معاوية وحاشيته من أثرياء الشام..
ومما زاد الطين بلة امتناع عثمان عن استقبال علي و الإكتفاء بمشورة مروان بن الحكم الذي كان يزين له الأمور ويخفي عنه الحقائق حتى ضاق الناس درعا بسياسته فحملوا له في بداية الأمر مطالبهم، ثم حاصروه لما رأوا تعنت ولاته في الاستجابة لهم ليتحول الأمر في النهاية إلى ثورة عارمة راح ضحيتها الخليفة عثمان بن عفان نفسه، ليبايع بعده الثوار بما فيهم عدد كبير من الصحابة عليا بيعة جامعة دانت له بها كل الأمصار عدا الشام التي كان على رأسها معاوية.
علي ومعاوية:
استغل معاوية بن أبي سفيان الوضع الجديد ليطالب عليا بقتلة عثمان من أجل القصاص. بيد أن عليا طالبه أولا ببيعته قبل أن يحقق في الأمر، خاصة وأن من بين القتلة زعماء ذووا منعة ونفوذ لدى قومهم. وأمام تعنت معاوية واتهامه عليا بإيواء القتلة وتحريضه أهل الشام على الإنتقام، ما كان من علي إلا أن يجهز جيشا جرارا لملاقاته. بيد أن عددا من قيادات قريش كالزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله عمدوا إلى نكث بيعتهم للإمام علي وجهزوا جيشا في البصرة جعلوا على رأسه أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر زوج النبي (ص)، حيث دارت معركة الجمل التي كانت أول معركة في التاريخ تدور بين المسلمين قتل فيها عدد كبير الصحابة من أبرزهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام اللذان كان في صف علي في البداية قبل أن ينقلبا عليه بعد أن رفض مجاراتهما في بعض الأمور16..
كان النصر في هاته المعركة حليفا للإمام علي، بيد أن رفضه تقسيم غنائم المعركة بين أنصاره قد ترك حزازات في قلوب أتباعه، سوف يبوح بها فيما بعد عدد من رؤوس الخوارج الحرورية بعد أن أرسل إليهم الإمام علي ابن عباس لكي يقنعهم بالعودة إلى جيشه بعد خروجهم إثر حادثة التحكيم الشهيرة..
إستغل معاوية معركة الجمل وتململ عدد من أنصار الإمام علي من بعض قراراته التي لم توافق هوى في نفوسهم لكي يجند منهم ما استطاع بالوعود والأموال ويجهز بالشام جيشا جرارا لملاقاة الإمام الذي خرج إليه ليلتقي الجيشان في صفين حيث دارت رحى حرب ضروس كاد ينتصر فيه الإمام علي لولا دهاء عمر بن العاص الذي اقترح على معاوية رفع المصاحف على الرماح ليزعزع من عزيمة القوم، حيث أثبتت هذه الخطة نجاعتها على أرض الواقع فتفرق جيش علي بعد أن توقف جزء منه عن القتال معظما كتاب الله لما رأوه مرفوعا على الرماح في حين فطن بعضهم لهاته الخدعة وأكملوا القتال بأمر من الإمام علي الذي لم ينطل عليه مكر الأمويين لولا تدخل عدد من كبار القادة الذين غرر بهم معاوية وخدعتهم خطة عمرو بن العاص مجبرين عليا على وقف القتال والقبول بالتحكيم..
حادثة التحكيم:
وهكذا دخل علي التحكيم مرغما من جهتين، فمن جهة حمل على قبوله حملا وهو له كاره، ومن جهة أخرى فقد أرغم على اختيار أبي موسى الأشعري لكي يمثله بعد أن رفض الطرف الآخر الذي يمثله معاوية وحاشيته كلا من ابن عباس ومالك الأشتر النخعي اللذان اختارهما علي بنفسه بحجج واهية.
لم يكن معاوية ليفوت هاته الفرصة الذهبية، فقد أرسل لمواجهة أبي موسى الذي لم تكن له دراية بحيل السياسة والمكر أحد دهاة العرب، وصاحب خدعة التحكيم نفسه، وهو عمرو بن العاص الذي وعده معاوية بولاية مصر لكسب ولائه. ولم يخيب عمرو رجاء سيده فقد خدع أبا موسى واحتال عليه لكي يخلع صاحبه الإمام علي عن الحكم بعد أن اتفق كليهما على عزل صاحبيهما وإعادة الأمر إلى المسلمين لكي يختاروا من يشاءون، لكن ابن العاص انقلب على اتفاقهما فغدر بغريمه وثبت معاوية17. لينفجر الوضع مرة أخرى بين أنصار علي، بل إن بعضا ممن سيسمون فيما بعد بالخوارج طالبه برفض التحكيم والتوبة إلى الله. ولما رفض الإمام علي وعاتبهم على أفعالهم تنكروا له و شرعوا يهددون الناس ويفسدون في دولته حتى ضاق بهم درعا18. وقد كاد يستأصلهم في واقعة النهروان مما أثار حقد من تبقى منهم على الإمام علي وخصومه السياسيين معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، فكان أن اتفق ثلاثة منهم على اغتيال علي ومعاوية وعمرو باعتبارهم رؤوس الفتنة بين المسلمين، ولم تنجح من محاولاتهم إلا محاولة عبد الرحمان بن ملجم الذي صلى الفجر خلف علي ليغتاله بعد الصلاة19، وينسدل الستار على الحلقة الأولى من الصراع الذي دار بين الأمويين و العلويين الذين سوف يبايعون الإمام الحسن بن علي بعد ذلك.
معاوية والحسن:
بعد أن استحر القتل بين الجيشين وبدأت بوادر الخيانة تظهر في جيش الإمام الحسن بن علي ممن باعوا أنفسهم لمعاوية أو انساقوا مع الخوارج، آثر الإمام الحسن الصلح مع معاوية حقنا لدماء المسلمين، لكن بشروط كان من أبرزها تنازل معاوية له على خراج العراق، والكف عن متابعة شيعة أبيه ممن قاتلوه في صفين وأن تعود الخلافة للحسن بعد وفاة معاوية..
قبل معاوية كل شروط الإمام الحسن وسمي ذلك العام بعام الجماعة. لكنه سوف يتنكر لها فيما بعد ويتحلل منها أمام ملأ من أهل المدينة، بل إن الشيعة يتهمونه بالاحتيال في قتل الإمام الحسن نفسه عن طريق زوجته جعدة بنت الأشعث، ليتابع بالقتل والتنكيل شيعة أبيه الإمام علي، وقد قتل منهم خلق كثير من أبرزهم الصحابي الجليل حجر بن عدي الكندي20 وعمرو بن حمق الخزاعي وميتم التمار، ويولي ابنه يزيد بن معاوية على الأمة من بعده، وقد كان يزيد كما تروي كتب التاريخ منحرفا بشهادة علماء الأمة ممن عاصروه، وهو الذي كان وراء قتل الإمام الحسين بن علي وعددا من أهل بيته في كربلاء بعد أن خرج ثائرا للحق بطلب من أهل الكوفة.
لقد شكلت كل هاته الأحداث المتسارعة في حياة المسلمين منعطفا خطيرا سوف يكون من أبرز نتائجه انفصال جزء مهم ممن تشيع للعلويين في كل معاركهم ضد خصومهم عن باقي المسلمين الذين سلموا للأمر الواقع ورضخوا كرها لاستبداد الأمويين. وهكذا لم يتوقف الشيعة عن محاولات الثورة والتمرد لاسترجاع الحق الضائع لأهل البيت (ع) حسب رؤيتهم من جهة والثأر من السلطة الأموية التي قامت باضطهادهم من جهة أخرى. وفي مراحل متقدمة سوف يتجاوز هذا الصراع المواجهة العسكرية إلى مواجهات أيديولوجية انسحبت آثارها على عقيدة المسلمين واجتهادات الفقهاء من الطرفين في التشريع والمعاملات بل تجاوز الأمر إلى العادات والتقاليد مما سيعمق الشرخ بين الفريقين اللذين عبثت بمصيرهما السياسة والمصالح إلى أبعد الحدود..يتبع..
هوامش:
1- ذهب بعض المفسرين السنة كالزمخشري والقرطبي والطبري والفخر الرازي إلى نزول هذه الآية في علي بن أبي طالب (ع).
2- ممن شكك في أسطورة ابن سبأ عميد الأدب العربي طه حسين في كتابه "الفتنة الكبرى"، والشيخ مرتضى العسكري عميد كلية علوم الدين بالنجف الأشرف في كتابه "عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى"، والدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه "الصلة بين التصوف والتشيع"، والدكتور عبد العزيز الهلابي – أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة الملك سعود دراسة عن عبد الله بن سبأ ونشرت في حوليات الآداب الكويتية(83) وغيرهم كثير.
3- وقد نسبتهم الدعاية الوهابية في حرب الخليج الأولى إلى المجوسية، حيث تم تأليف كتيب و توزيعه مجانا في عدد من الدول العربية والإسلامية تحت عنوان "وجاء دور المجوس" برعاية دول خليجية.
4- أنظر فتوى السيستاني: https://www.youtube.com/watch?v=1SXzPDnyJHA
وفتوى الخامنائي: http://www.hespress.com/international/23913.html
وفتوى محمد حسين فضل الله: http://www.yasour.org/news.php?go=fullnews&newsid=12342
5- أنظر البخاري ومسلم كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي.
6 -أنظر البخاري، باب فضائل علي.
7- أنظر البخاري ومسلم، باب فضائل علي. ومسند أحمد ج 2.
8- أنظر مسلم كتاب فضائل الصحابة، مناقب علي وآل البيت (ع)
9- أنظر طبقات ابن سعد ج 2. ومسند أبو داود الطيالسي.
10- أنظر الترمذي كتاب المناقب. ومسند أحمد ج 1. وفتح الباري ج 7.
11- أنظر مسند أحمد ج 1.
12- أنظر أيضا فتح الباري ب 7 / 105 و أنظر تفاصيل الصدام بين فاطمة وأبي بكر في البداية والنهاية لابن كثير ح 6. وكتب التاريخ الأخرى. وكان الهدف عن حجب ميراث فاطمة هو محاصرة آل البيت اقتصاديا من أجل إضعافهم. ومما يدل على أن موقف أبو بكر هذا نابع من القبلية والسياسة أن عمر بن عبد العزيز رد ميراث فدك لآل البيت. ويلاحظ أن موقف أبو بكر هنا مخالف لنصوص القرآن مثل قوله تعالى (وورث سليمان داود) وقوله (يرثني ويرث آل يعقوب).
13- هي أرض قد صالح أهلها من اليهود محمدا ص لما كان قافلا من غزوة خيبر على نصف غلتها وقد كانت خالصة للرسول ص لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ويقال بأن النبي ص قد تنازل لحقه فيها لصالح ابنته فاطمة، لكن أبا بكر وعمر طالباها بالشهود، فتحولت عن المطالبة بحقها كاملا في فدك إلى المطالبة بقسط منه كنصيب لها من الإرث، بيد أن الخليفتين رفضا طلبها من جديد مما أدى إلى تأزم العلاقة بينهما وبين فاطمة الزهراء بنت الرسول ص حيث كانت تشتكي منهما في كل حين حتى أنها رفضت بأن يحضرا جنازتها لما ماتت. أنظر: فتوح البلدان/البلاذري: 42-46 وأنظر "فدك في التاريخ" للسيد محمد باقر الصدر، وهو كتاب يحيط بكل تفاصيل الواقعة وتداعياتها.
14- أنظر أيضا فتح الباري ب 7 / 105 و أنظر تفاصيل الصدام بين فاطمة وأبي بكر في البداية والنهاية لابن كثير ح 6. وكتب التاريخ الأخرى. وكان الهدف عن حجب ميراث فاطمة هو محاصرة آل البيت اقتصاديا من أجل إضعافهم. ومما يدل على أن موقف أبو بكر هذا نابع من القبلية والسياسة أن عمر بن عبد العزيز رد ميراث فدك لآل البيت. ويلاحظ أن موقف أبو بكر هنا مخالف لنصوص القرآن مثل قوله تعالى (وورث سليمان داود) وقوله (يرثني ويرث آل يعقوب).
15- من أبرز رجال الإمام علي نجد: أبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وبلال بن أبي رباح والمقداد وحذيفة بن اليمان. وجابر بن عبد الله وخباب بن الأرت وسلمان الفارسي وحجر بن عدي. وحسان بن ثابت.أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عباس والعباس بن عبد المطلب وأبو أيوب الأنصاري وخزيمة ذي الشهادتين وأبي بن كعب وسهل بن حنيف وقيس بن سعد بن عبادة..
16- يقال بأن أحدهما طالبه بالولاية على البصرة والآخر طلب منه توليته على الكوفة لأنه كانت لهما مصالح وأتباع هناك، لكن الإمام علي أجابهما برفق: "أحب أن تكونا معي أتجمل بكما وأستأنس برأيكما ، فإني أستوحش لفراقكما" وفي رواية أخرى "أن تكونا وزيراي خير من أن تكونا أميراي" مما دفعهما إلى الانقلاب عليه والخروج مع عائشة في معركة الجمل. أنظر سيرة الأئمة الإثنا عشر من تأليف هاشم معروف الحسني ج 1- ص 394.
17 -يطعن البعض في هذه الرواية رغم شهرتها، حيث أوردها الطبري عن أبي مخنف لوط بن يحيى الذي اختلف العلماء في توثيقه. و يبدو بأن أبا موسى الأشعري كان منصرفا عن علي منذ البداية، وكان يثبط الناس عن نصرته في معركة الجمل، ويقول لهم بأن هذه فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الراكب.. مما يفتح الباب لقراءات أخرى في هذا الحدث.
18- لما رفع الخوارج شعار" لا حكم إلا الله" قال الإمام علي: كلمة حق أريد بها باطل.
19- يشكك الدكتور هشام جعيط في كتابه "الفتنة : جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر" في هاته الرواية التي ذكرها جرجي زيدان في روايته 17 رمضان، وينتصر لرواية أخرى تحكي عن خطبة ابن ملجم لحسناء من الخوارج إسمها قطام، طلبت منه كمهر لها رأس الإمام علي الذي حملته قتل أبيها وأخيها في وقعة النهروان، وذلك لما يؤيدها من شواهد شعرية. أنظر الكتاب ص 297.
20 -قتل حجر بن عدي الكندي وأصحابه في مكان يقال له مرج دابق بالشام (سوريا اليوم)، وما يزال قبره إلى اليوم هناك حيث عبثت به ودمرت مقامه بعض الجماعات التكفيرية التي تحارب الجيش النظامي سنة 2013.
محمد أكديد.