إلى الذين ينهشون لحمنا في الغياب…
ويتشدقون بكثير الكلام عن القيم، وعن الوفاء، وعن الإخلاص وعن الأخلاقيات… ولأنهم يختلفون معنا في موقف، في تفصيل يومي صغير، أو بسبب غيرة إنسانية عابرة، يسكنهم الحقد ويقتل الإنسان فيهم. ينهشون اسمنا. ولحمنا. وعرضنا…
إلى الذين كانوا إلى وقت قريب أصدقاء، أو أحباء… وفرقت بيننا السبل… نحتفظ لهم بذكريات جميلة في القلب والذاكرة، إلى أن نكتشف بأن تلك المسافات لم تكن زمنية ولا مكانية… بل كانت أيضا مسافات في القيم… وفي المواقف…
إلى الذين يدافعون عن القيم. عن قيم الدين والأصالة. عن قيم الحداثة والحرية. عن قيم حقوق الإنسان. عن قيم الديمقراطية…
يرفعون الشعارات. يكتبون المقالات. يتظاهرون. يسكنون في الفايسبوك نضالا وحجاجا ومقارعة… لكن، يكفي أن تتأمل علاقتهم بزوجاتهم أو حبيباتهم. بأبنائهم. بمستخدميهم. بمن هم في مرتبة اجتماعية أقل منهم. يكفي أن تسمع حديثهم العفوي إليك، خارج خطابات النضال الراقية والمطرزة… لكي تكتشف الوجه الآخر. الوجه الحقيقي. هم قادرون على انتقاد كل شيء: الملكية والليبرالية والحداثة وإمارة المؤمنين والإسلاميين والاستبداد والبام والبيجيدي… لكنهم عاجزون عن مساءلة الذات بسؤال الشك.
يقيمون داخل يقينياتهم. يحللون. يناقشون. يعطون الدروس. يعارضون الجميع باستعلاء العارف بالخبايا والتطورات… لكنهم عاجزون عن ممارسة لغات الإنصات ولو قليلا، لذلك الآخر الذي قد يحمل لهم بعض معرفة… وبعض تساؤلات…. وبعض وجهات نظر قد لا تكون استثنائية، لكنها تحمل نصيبها من الجدية. من العمق.
إلى الذين عاشرناهم يوما باسم الصداقة، أو باسم العشق، أو باسم قيم مشتركة… أو حتى باسم جنون عابر… فتحنا لهم أبوابنا… لحظات ضعفنا… هواجسنا… مخاوفنا… ليصبح المشترك سلاحا في أيديهم يقتلونك به كل يوم، ويقتلون معه كل الأشياء الجميلة التي كانت…
إلى كل الذين نحمل لهم بين دفات الكتب احتراما جميلا. نقرأ لهم. نقدرهم. نعجب بهم وقد ننبهر أحيانا… ثم نلتقيهم ذات صدفة. نتقرب منهم. نعرفهم… وتصفعنا الحقيقة القاتلة. حقيقة المسافات الكثيرة التي تربط بين جميل كتاباتهم وشجاعة طروحاتهم… وبين حقيقة مواقفهم.
إلى هؤلاء وغيرهم كثير… إلى من يقتلون فينا كل يوم بعضا من العفوية لكي نحترس أكثر. لكي لا نصدق كل ما نقرأه وما نسمعه. إلى من يرعبون الطفل فينا فيسكننا الخوف الدائم من أن نكتشف شخصا آخر خلف الواقف أمامنا… إلى من ألمونا، ليس بسبب خلاف قد نكون طرفا فيه وليس بسبب فراق لا نستحمله، بل فقط لأن شيئا بداخلهم يجعل من إيذاء الآخر دواء لنوازعهم.
إلى كل هؤلاء سلاما… وحزنا… ودمعة يسكنها الألم. يعتصرها الوجع على الإنسان فينا وفيهم، يذبح اعتباطا…
لسنا ملائكة… لكل منا نصيبه من الأخطاء ومن التعثرات ومن التناقضات… لكل منا نصيبه من الفلتات. لكن، حين يصبح تصويب سهام الوجع للآخر، عن وعي، قوتا يوميا؛ فهذا يعني فقط أننا نعيش ألما داخليا حقيقيا… بدل أن نعالج أنفسنا منه (فلهذا السبب وجد الطب النفسي)، نجعله يتحكم فينا… ويحطم أجمل ما فينا.
سناء العاجي