عبر التاريخ ظلت اللغة عنوانا بارزا من علامات الانتماء الجهوي حتى في أضيق مساحاته في كل منطقة من بقاع العالم، وهذا الانتماء قد يتكسر بفعل عامل التأثير والتأثر خلال الاتصال والتواصل بين الشعوب، بفعل قوة الثقافة المهيمنة، أو من خلال التفاعل والتشارك في بناء نموذج يتداخل فيها المحلي بالخارجي. ومن ثم ينتج حضارة ذات منتج ثقافي وفني ومعماري وتراثي مشترك وخاص...
ومع استحضار حالة المغرب تظهر تلك العلاقة التشاركية المتينة التي حدثت وسط المغاربة بين اللغتين الأمازيغية والعربية. فمنذ وصول الفاتحين العرب إلى المغرب، أقبل المغاربة دون تردد على اعتناق الدين الاسلامي الذي يتطلب بالضرورة التعرف على اللغة العربية نظرا للتمازج والارتباط الوثيق بين الدين واللغة ، محافظين على انتمائهم اللغوي الأمازيغي والعادات والقيم المحلية، حيث ظلت راسخة إلى الحاضر، ولم تتعرض الثقافة الامازيغية إلى تعطيل منتجها من طرف العنصر العربي، بل أصبح الطرف الأمازيغي من يتولى الدفاع عن اللغة العربية وخدمتها علما وتأصيلا وتدريسا.
والخلاصة أن هذا المشترك بين الأمازيغي والعربي دينا وثقافة ولغة .. أنتج النموذج المغربي، جعله يؤسس لحضارة مغربية عريقة نمت وتطورت وازدهرت وتوسعت جنوبا وشمالا وغربا، واستمرت لعقود تنتج .. خلفت إرثا حضاريا وثقافيا واضحا لا ينكره أحد.
وهذا المكون الحضاري المغربي المتميز، لم يخفت إلا بعد أن فقد المغرب هيبته وقوته في شمال غرب إفريقيا أواسط القرن التاسع عشر، بداية بمعركة إسلي ومرورا بحرب تطوان، ووصولا إلى الغزو الاستعماري الفرنسي والإسباني بداية القرن العشرين، وما تلته من محاولات المستعمر في فك ذلك التزاوج الحضاري المحكم بين المكونات الثقافية واللغوية للمغاربة، وإحداث بديل أجنبي بفعل الهيمنة التي يمتلكها ليحل محلها.
ونتيجة لهذا العلاقة القوية التي نسجت بقوة ومتانة ، نجح مؤقتا في إحداث رجة في وسط مغربي ضيق سبق إعداده للقيام بالمهمة المنوطة به، لكن محاولاته فشلت جماهيريا وشعبيا في فك الارتباط ثقافيا ولغويا بين المغاربة رغم إصرار المستعمر كما هو الحال في إحداث الظهير البربري، أو ما تقوم به بعض المؤسسات الثقافية الدولية والمحلية من محاولات بهدف تفكيك البناء الحضاري وخلخلة التماسك الاجتماعي المغربي.
لقد عاشت اللغة العربية والأمازيغية في المغرب جنبا إلى جنب في تماسك قوي منذ حوالي خمسة عشر قرنا. واستطاعت أن تصمد في أعتى العواصف والرياح العاتية الشرقية والغربية التي هبت من كل صوب، بهدف النيل من هذا التماسك.
ويسود الاعتقاد لدى العديد من اللسانيين والباحثين في مجال اللغة بالمغرب، أن التزاوج بين العربية والأمازيغية سيستمر تأثيرا وتأثرا إلى الأبد... ولن ينخدع بالمتغيرات والشعارات الفضفاضة التي تحمل شعارات القوانين المحلية والدولية، حتى مع هبوب الرياح العاصفة، بحكم أن البناء محكم ومتماسك في أساسه منذ أزيد من أٍربعة شعر قرنا.
*دكتوراه في الصحافة ، أستاذ زائر لمادتي الصحافة والاتصال بجامعة عبد الملك السعدي ، إعلامي ومدير مجلة تطوان على النت.