لقد أُصبتُ بخيبة يوم الأحد 29 يناير 2017 إثر إقصاء الفريق الوطني من كأس إفريقيا للأمم، لكني استفقتُ في اليوم التالي على نصر باهر تمثّل في عودة المغرب إلى حظيرة الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا، رغم كيد الكائدين، وعراقيل المغرضين، وأدركتُ أن مسألة الفوز بكأس إفريقيا قد تحتمل الانتظار كرهان متجدد، في حين عودة المغرب إلى الاتحاد هي مسألة حاسمة لا تحتمل أي انتظار لما لها من أهمية قصوى، وما تنطوي عليه من أخطار، ومن نتائج إن هي أُجِّلت وبقي المجال فسيحا أمام الأشرار.. لكنْ، وبعدما خابت آمال الخصوم، وأُحبطت أعمالهم، لجؤوا إلى التخفيف عن أنفسهم مما أصابهم، بواسطة تبريرات اعتمدوا فيها أشباه الألفاظ، والمضلِّل من العبارات، والمغرض من التعابير اللغوية الفارغة، التي تخدع السّذج بجرسها لا بمعانيها ودلالاتها، لأنهم يدركون أن عددا كبيرا لا يعرف في الواقع منطقَ لُغته، كأن قيل إن المغرب دخل بدون شروط مسبقة، وأن شروط الاتحاد هي التي طغت، ثم قائل مغالِط يقول إن دخول المغرب إلى الاتحاد، هو انضمام وليس عودة، لأن الأمر اليوم يتعلق بالاتحاد الإفريقي، وليس بالوحدة الإفريقية، وهكذا..
فأما ما كان من أمر الشروط، فجوابنا هو أن أصحاب التحدي الشجعان يدخلون الميدان ويخوضون الرهان بشروط الخصوم لا بشروطهم؛ ومن يضع شروطه الخاصة فهو الجبان، لأن تلك الشروط يخفي بها عجزَه، ويحجب بها ضعفه لكي لا يخوض الغمار خوفا من الإخفاق.. أما الفارس المغوار الذي لا يخشى الأخطار فيدخل المضمار بدون شروط شخصية مسبقة.. فحتى الوجود نفسه، هناك من ينخرط فيه بشروط الوجود نفسه، لا بشروطه الذاتية، فيثبت وجودَه فيه، وأما من كان يريد الانخراط في الوجود بشروطه الذاتية فقد انهزم، وآثر الانتحار، وهو دليل على الضعف والانهيار، فمات بحثا عن وجود غير مشروط؛ ويقال إن 70 قارئا انتحروا بعدما قرؤوا كتاب [شوبّنهاور]: [العالم كإرادة وتصوُّر] لكنّ قراء [ألبير كامي] لن يفعلوا بل سيقتفون طريق بطله في رواية [أسطورة سيزيف] الذي مارس الوجود بشروطه ومصاعبه، وتحمّلَ نتائج ذلك، ولم يستسلم أبدا، رغم شروط الوجود المجحفة، بل القاسية، لا بل اللامعقولة أصلا، وذاك ما فعله المغرب بكل شجاعة وتحدٍّ ومسؤولية.. يقول المفكر الألماني [غوته]: [مَن لم يستفدْ من 3000 سنة خلت، فهو ما زال يعيش في العتمة] وهكذا؛ ومن ما زال يمارس سياسة المقعد الشاغر التي أضاعت حقوق العرب، وفسحتِ المجال أمام خصومهم يفعلون في غيابهم ما أرادوا في مؤتمرات، ومنظمات، وكم من حقوق ضاعت بسبب المقعد الشاغر، وطول غياب، وصدق الفيلسوفُ [أفْلوطين] وليس (أفلاطون): [ليس هناك ما هو أشر من الغياب] والمغرب ترك الغياب، وآثر الحضور الفعلي [هنا والآن] أي في المكان والزمان وكان لجلالة الملك في ذلك حكمة وتبصُّر وذكاءٌ لا ينكَر.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدخل [مكة] بشروط المشركين التي قبلها كلّها (وهو النبي المعصوم) في [الحديْبية]، وعند كتابة الاتفاق دعا عليه السلام [عليّا] كرّم الله وجهه ليكتب الكتاب؛ فأملى عليه: بسم الله الرحمان الرحيم؛ فقال [سُهيل] زعيم عصبة أصحاب الشروط: اُكتبْ باسمك اللهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليٍّ كرّم الله وجهه: اُكتبْ ما قاله سهيلُ.. ثم أملى عليه السلام: هذا ما صالَحَ عليه محمدٌ رسول الله. فقال سهيلُ بن عَمْرو: لو شهدتُ أنك رسولٌ لما قاتلتُك؛ اُكتبْ: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو.. فقال النبي الكريم لعليٍّ: اُكتبْ ما قاله سهيلُ بن عمرو.. ثم دخل النبي عليه السلام مكةَ.. فهل كان صلى الله عليه وسلم مهانًا [وحاشا ذلك] حين قبل بشروط الأعداء يومئذ؟ الجواب: كلا! بدليل أنه دخل بعد سنين مكة ظافرا منتصرا.. لقد أراد الخصومُ بتلك الشروط، عرقلةَ عودة المغرب إلى ملْء مقعده لكنهم أخفقوا..
في سنة 1988 رفضتْ أمريكا منح تأشيرة الدخول إلى ترابها للزعيم [ياسر عرفات]؛ فقررت منظمة الأمم المتحدة نقْلَ اجتماعها إلى [جونيڤ] بسويسرا لسماع كلمة الزعيم الفلسطيني؛ وطُلب منه في يوم 14 دجنبر من السنة نفسها أن يدين الإرهاب كشرط عسى الزعيم يرفض إلا أنه فعل، وأدان الإرهاب أمام الملإ؛ لكن إسرائيل ادعت أنه لم يَقُل العبارة بأكملها؛ وفي اليوم التالي كرر [ياسر عرفات] إدانته للإرهاب تماما كما أملاها عليه [جورج شولز] وزير خارجية الولايات المتحدة، وكانت إسرائيل تأمل أن يرفض [ياسر عرفات] هذا الشرط، لكنه قبل وقرأ العبارة كما فُرِضت عليه إذ قال وهو يقرأ تلك الورَيْقة أمام الصحافة: [أكرِّر أني أدين الإرهاب بكافة أشكاله بما فيه إرهابُ الدولة]؛ ويوم 17 دجنبر، صرحتْ أمريكا بأنها سفتح حوارا مع [ياسر عرفات]، بل صار يُسْتقبل من طرف قادة الدول، وأصبح للفلسطينيين أخيرا موقعٌ على خريطة العالم، وأمست إسرائيل هي المدانة، وأخفقتْ في جعل [ياسر عرفات] يرفض تلك الشروط.. كتبتْ جريدة [الفيغارو] على صفحتها الأولى، بالأحرف الأولى: [عرفات يلعب ويكسب في جنيڤ]؛ لكن ماذا كان سيكسبه لو كان قد سقط في فخ رفض الشروط، وذاك ما كانت تريده إسرائيل؟! اُنظر جريدة [الفيغارو] ليوم 14 دجنبر 1988.. فالشروط لا تُعْجِز الشجعان أبدا..
نأتي الآن إلى عبارة "الانضمام"، وليس "العودة"، وهذا ما ابتدعه سفسطائيو الجزائر للتخفيف عن أنفسهم من وطأة الخيبة التي ألمّت بهم بعد عودة المغرب إلى مقعده؛ ومعلوم أن الجزائر وجنوب إفريقيا كانت تتوهّمان أن منظمة الاتحاد الإفريقي كانت مِلْكيةً خاصة لهما، فأثبت لهما المغرب أنهما كانتا على خطإ، وأيقظهما من سبات طال سنين عديدة، وهو سبات استأنستا به، وجعلهما الآن يرفضان الواقع.. وكدليل على رفضهما للفظة "العودة"، هو ادّعاؤهم أن المغرب كان عضوا في منظمة الوحدة الإفريقية، وأن الأمر اليوم يتعلق بالاتحاد الإفريقي؛ هكذا.. ونحن نقول لهما عبر درس في اللغة إن التسميتين معا تعنيان منتظما واحدا، وكم هي الأشياء أو الأدوات التي لها تسميات عدة، فلو أنك عدتَ إلى القواميس الفرنسية لما وجدتَ فرقا بين [وحدة: unité، واتحاد: union] في المجال السياسي بوجه خاص؛ مع العلم أنه لم تكن هناك قطيعة زمنية بين ما كان يدعى "وحدة" وبين ما صار يدعى "اتحادا" عكس ما حصل لعصبة الأمم التي اختفت في الثلاثينيات؛ بل ظل الكيان قائما وكل ما تغير هو التسمية، ثم لا فرق بين (2+2) و(2x2) في الدلالة والنتيجة؛ بل لا فرق بين القلب والفؤاد؛ بين النفس والروح؛ إذ المسمّى واحد؛ ولا أعتقد أني أعني بلدا عندما أقول الجزائر، وأعني بلدا آخر عندما أقول المغرب الأوسط؛ الشيء نفسه ينطبق على بريطوريا وجنوب إفريقيا؛ الشيء نفسه تعنيانه الوحدة الإفريقية والاتحاد الإفريقي، وكذلك السوق الأوربية المشتركة والاتحاد الأوربي؛ ثم كفاكم مغالطات ساذجة، وضحكا على ذوي العقول الدنيا؛ المهم عدنا والعود أحمد؛ [قُلْ موتوا بغيضكم] صدق الله العظيم.