كنا قد دعونا قبيل الحرب على الارهاب وفي اكثر من مقال الى ان تشمل هذه الحرب ايضا المليشيات الشيعية التي كانت قد بدأت حينها بالظهور في سوريا والعراق وعملت على التأثير على الوضع الداخلي في البلدين. غير ان تطورات الثورة السورية وتصدر داعش لمشهدها ومن ثم دخولها وسيطرتها على ثلث العراق جعل الاهتمام ينصب على محاربتها دون الاطراف الاخرى.
اما اليوم ونحن على اعتاب انتهاء حقبة داعش في البلدين، فان المجتمع الدولي مطالب للنظر بجدية لمخاطر وجود المليشيات الشيعية المسلحة وتهديدها للسلم الاهلي والاستقرار في المنطقة بشكل لا يقل خطورة عن تهديد داعش، والعمل على تحجيمها او انهاء وجودها بنفس الجدية التي تعامل بها مع داعش. صحيح ان داعش وهذه المليشيات الشيعية تقفان على طرفي نقيض من حيث التوجه المذهبي، الا انهما يشتركان في الكثير من النقاط التي تجعل منهما وجهان لعملة واحدة، سواء من ناحية البنية الفكرية والممارسات، او النهج والتوجهات، وحتى نوعية الاهداف التي يعملان لاجلها. فالطرفان يتبنيان الاسلام السياسي كنظرية للوصول الى السلطة، وللوصول الى هذا الهدف المقدس وتمكين حكم الله على الارض (كما يزعمون) يصبح كل شيء مباح من قتل ونهب ودمار وانتهاك لحقوق الانسان، فالممارسات التي يراها المجتمع الانساني بانها جرائم يراها الطرفان انها جهاد في سبيل الله.
هذا فيما يتعلق بنقاط التشابه بين الطرفين. اما نقاط الاختلاف بينهما فهي كثيرة ومتعددة، وكلها تؤكد وبشكل لا لبس فيه ان خطورة هذه المليشيات تفوق خطورة داعش من حيث الامكانيات والاعداد والاطراف الداعمة لها. ونحاول فيما يلي سرد بعض هذه النقاط:
اولا.. في الوقت الذي لم تحز فيه داعش على دعم اية جهة دولية او اقليمية لا سياسيا ولا عسكريا (على الاقل في العلن)، بل كانت تنظيما منبوذا ومحاصرا من المجتمع الدولي كله، فان المليشيات الشيعية تحوز على دعم وتأييد سياسي وعسكري من اكثر من دولة ونظام في المنطقة.
ثانيا.. استطاعت المليشيات الشيعية وبدعم ايراني من استغلال الظروف الداخلية للدول التي نشأت فيها، لتتحول في بعضها الى دولة داخل دولة، وفي اخرى لتحل محل الدولة ذاتها.
فعلى سبيل المثال استطاع حزب الله استغلال الظروف الداخلية في لبنان وتأسيس دولة له داخل الدولة اللبنانية، يتحرك من خلالها لفرض سيطرته على القرار اللبناني بما يتلاءم والاجندات الايرانية، مما ادى الى ان يصبح القرار اللبناني اسيرا بيد حزب الله.
اما في العراق فقد استطاعت الاحزاب الشيعية الحاكمة في بغداد استغلال سيطرة داعش على مدن عراقية لتشكيل مليشيات الحشد الشعبي بدعم مباشر من ايران وبمباركة مراجع شيعية في العراق وايران، لتتحول الى قوة عسكرية تفوق قوة الجيش العراقي. وبتمرير قانون الحشد الشعبي، سيطرت هذه الميليشيات على مؤسسة الجيش وقراره العسكري، ثم استحوذت على الملف الامني بشكل مباشر بعد توزير شخصية مليشياوية على راس وزارة الداخلية، وبذلك فرضت هيمنتها على اهم وزارتين في البلد وهما وزارة الدفاع والداخلية.
اما في اليمن فقد حاولت ايران تكرار تجربتها في سوريا والعراق من خلال دعم مليشيات الحوثيين الا انه تم اجهاض محاولتها تلك من خلال عاصفة الحزم التي شنها التحالف الاسلامي لمنعها.
ثالثا...في الوقت الذي لم يتمكن داعش من تسخير الاعلام من خلال بعض مواقع الانترنت، تمتلك المليشيات الشيعية رسميا ماكنة اعلامية ضخمة في اربع دول (ايران- العراق- سوريا – اليمن – لبنان) تسوق افكارها وتفرض وجهة نظرها على الشارع من خلال شيطنة وجهة النظر المقابلة. ليس هذا فحسب بل ان الحكومة العراقية اصدرت قرارات بمعاقبة كل من ينتقد ممارسات هذه المليشيات وكل من يتعرض لجرائمها في القتل والنهب والسرقة.
رابعا... هناك نقطة قد تفسر بانها ليست من مصلحة هذه المليشيات، الا انها تخدمها بشكل كبير، وهي فوضوية تنظيماتها وضبابية قياداتها. فلحد الان لا يعرف عدد هذه المليشيات، ولا عدد الفصائل المنضوية تحتها (باستثناء المليشيات الرئيسة)، ولا من اين يتلقون الاوامر. فالصلاحيات متداخلة، والواجبات متضاربة، والادوار مختلفة. هذه الفوضوية والضبابية ليست عفوية بل هي مقصودة، تعطي تلك المليشيات مرونة في الحركة وقدرة على الافلات عن اي مسئولية او مسائلة مستقبلا، وتمكنها من التملص عن انتهاكات حقوق الانسان وجرائم الحرب التي ترتكبها عناصرها، فلم يعرف لحد الان الجهات التي تقوم بقتل وخطف وترويع المواطنين المدنيين (عراقيين كانوا ام اجانب)، ولم تجرِ محاكمة اي عنصر من عناصرها. ويمكن تصنيف مليشيات الحشد الشعبي بشكل عام الى ثلاث فئات:
- فصائل تابعة رسميا لاحزاب وشخصيات شيعية مشاركة في العملية السياسية كمليشيا بدر الذي يتزعمها هادي العامري، او سرايا عاشوراء وسرايا الجهاد والبناء التابعين للمجلس الاعلى للثورة الاسلامية. مليشيات هذه الفئة ملتزمة بمحاربة داعش داخل العراق، دون ان تسجل عليها خروقات او استفزازات لجهات داخلية او خارجية، جامعة بين العمل السياسي والعمل العسكري. ورغم وجود علاقات وطيدة بينها وبين ايران الا ان لها توجهاتها المستقلة التي تمكنها الى حد ما من التواصل باستقلالية مع الاخرين.
- فصائل منفلتة يترأسها اشخاص مرتبطون بدوائر ومؤسسات ايرانية، يتزعمها اشخاص مغمورون اخذوا فرصتهم في الظهور بعد دخول داعش للعراق، كعصائب اهل الحق والنجباء وكتائب حزب الله وسرايا الخراساني، الدور المنوط اليها لا يختلف عن الدور المنوط باي عصابة من قتل ونهب وترويع للمدنيين والتمثيل بجثثهم، واطلاق تهديدات استفزازية فارغة لجهات داخلية وخارجية حسب التوجيهات الايرانية، وهم غير ملتزمين بالقتال فقط داخل العراق وانما في اي مكان توجد فيه مصالح ايرانية.
- سرايا السلام التابعة للسيد مقتدى الصدر والتي لها خطها المستقل البعيد (ظاهريا) عن الاجندات الايرانية، تحاول العزوف عن البعد الطائفي واعطاء نفسها صبغة وطنية فيما يتعلق بداخل العراق. الا انها تعاني من ازدواجية الطرح. ففي الوقت الذي تعارض فيه قتال المليشيات العراقية في سوريا تهدد دولا خليجية وتفتي بشأنها حسب توجيهات القيادة السياسية للتيار الصدري، الامر الذي يثير الكثير من الشكوك حول ما اذا كان موقفها الوطني المعلن هو موقف راسخ في عقيدتها ام انه لا يعدو كونه توزيعا للادوار انيط بها من قبل ايران.
لذلك فان هذه الضبابية وتعدد المواقف والادوار هو امر مقصود وليس فوضويا، الهدف منه تشتيت اي موقف مستقبلي من اي جهة تجاه هذه الفصائل، والتهرب من اي مسائلة قانونية لفصائلها مستقبلا. ليس هذا فحسب بل ان الحكومة العراقية تقصدت الضبابية حتى في قانون الحشد الشعبي كي لا تلزم بعض المليشيات المنفلتة بمواقف رسمية للمؤسسة العسكرية وتعطيها المجال للحركة خارج العراق ايضا وكذلك ارتكاب جرائمها بعيدا عن اي قيود، وتبعد نفسها بنفس الوقت من تحمل مسئولية جرائمها.
سادسا.. من المعروف ان هذه المليشيات تؤمن بعقيدة ظهور المهدي وتتبناها في استراتيجيتها العسكرية مما يجعلها اكثر خطورة عل الواقع العراقي والاقليمي. فظهور الامام المهدي وحسب ما يؤمنوا به لا يكون الا بعد ان تمتلئ الارض جورا وظلما وبعد ان تثخن فيها الدماء، ويؤمن فقهاء الشيعة بقرب ظهوره اعتمادا على ما عندهم من روايات، وعليه فكل هذه الفصائل تامل بانه يكونوا ضمن جيش المهدي، وعليه فانها ترى بان افشاء القتل والدمار في المنطقة هو عمل مشروع مقدس طالما سيعجل من ظهور امامهم، مما يشير الى ان العراق ينتظره مستقبل مظلم بوجود هذه المليشيات.
سابعا.. تشكل هذه المليشيات مصدر تهديد للكثير من الدول السنية التي تراها ايران بانها تمثل تهديدا لها ولاجنداتها خاصة دول الخليج العربي، وخلال السنوات السابقة كانت لهذه المليشيات مواقف متشنجة جدا ازاء هذه الدول من خلال تصريحاتها التهديدية، ويبدو ان هذه المليشيات مستعدة للقتال بالنيابة عن ايران وجعل العراق بوابة غربية لها للدفاع ليس عن العراق وانما عن ولاية الفقيه الايرانية.
انس محمود الشيخ مظهر