الصادق العثماني
المهووسون بإصدار الفتاوى الدينية والأحكام الشرعية وعبر الفضائيات الإسلامية والشبكات العنكبوتية العالمية اليوم -مع الأسف- الكثير منهم لا يفرق بين الحكم الشرعي والفتوى، فيظن أن الحكم الشرعي هو الفتوى، والفتوى هي الحكم الشرعي وهذا جرم وخطأ كبير يقع فيه الكثير من المشايخ والدعاة وطلبة العلم، وخاصة أصحاب البرامج الدينية الذين يفتون في كل شيء؛ حتى في علوم الزراعة والبيطرة والفلك والطب والهندسة والإقتصاد والسياسة والنفس والإجتاعوالتاريخ والجغرافيا..!! فالخزعبلات والخرافات التي تتخلل أغلب فتاواهم بسببها برزت في عالمنا العربي والإسلامي ظواهرغريبة، منها ظاهرة الإلحاد، واكتسحت الكثير من جامعاتنا ومدارسنا ومواقع التواصل الإجتماعي؛ لأنهم في الحقيقة لم يحترموا عقول الناس وأهل الإختصاص، فضلوا وأضلوا شباب الأمة معهم؛ بقصد أو بدون قصد، ولهذا أحببت أن أوضح في هذه المقالة المتواضعة الفرق بين الحكم الشرعي والفتوى، فأقول وبالله التوفيق: إن الحكم الشرعي هو عبارة عن حكم الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، ولا يتغير ولا يتبدل حسب الزمان والمكان، فحكم الخمر مثلا في الإسلام التحريم، سواء شرب في أمريكا أو أستراليا أو البرازيل، وسيظل حراما إلى أبد الآبدين ما دامت علة التحريم قائمة وهي الإسكار؛ أما الفتوى تتغير حسب الزمان والمكان والحال والأحوال، وتغير العوائد والأعراف والتقاليد التي تبنى عليها هذه الفتوى، وفي هذا السياق سئل الإمام القرافي (رحمه الله ) عن الأحكام المدونة في الكتب المرتبة على العوائد والأعراف التي كانت موجودة زمن جزم العلماء بهذه الأحكام ، هل إذا تغيرت العوائد وصارت لا تدل على ما كانت تدل عليه أولاً ،
هل يُفتي بما تدل عليه العوائد والأعراف الجديدة ، أو يفتي بما هو مدون في الكتب ؟ فأجاب بقوله : " إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد ، خلاف الإجماع وجهالة في الدين ؛ بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة.. " ففصل وقال رحمه الله: "ألا ترى أنهم لما جعلوا أن المعاملات إذا أطلق فيها الثمن يحمل على غالب النقود ، فإذا كانت العادة نقداً معيناً حملنا الإطلاق عليه ، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عيَّنا ما انتقلت العادة إليه ، وألغينا الأول لانتقال العادة عنه " ، إلى أن يقول : " بل ولا يشترط تغيير العادة ، بل لو خرجنا نحن من تلك البلد إلى بلد آخر عوائدهم على خلاف عادة البلد الذي كنا فيه ، وكذلك إذا قدم علينا أحد من بلد عادته مضادة للبلد الذي نحن فيه ؛ لم نفته إلا بعادته دون عادة بلدنا ، ومن هذا الباب ما روي عن مالك رحمه الله : إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول ؛ أن القول قول الزوج مع أن الأصل عدم القبض ، قال القاضي إسماعيل : هذه كانت عادتهم بالمدينة أن الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها ، واليوم عاداتهم على خلاف ذلك ، فالقول قول المرأة مع يمينها لأجل اختلاف العوائد ، وينبغي أن يعلم أن معنى العادة في اللفظ أن ينقل إطلاق لفظ واستعماله في معنى حتى يصير هو المتبادر من ذلك اللفظ عند الإطلاق مع أن اللغة لا تقتضيه ، فهذا هو معنى العادة في اللفظ ، وهو الحقيقة العرفية ، وهو المجاز الراجح في الأغلب ، وهو معنى قول الفقهاء إن العرف يقدم على اللغة عند التعارض ، وكل ما يأتي من هذه العبارات " .
وقد نقل الإمام علاء الدين الطرابلسي الحنفي كلام القرافي وأقره، وقال ابن القيم الحنبلي: " فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد " ونستنتج من أقوال هؤلاء العلماء ما ذهبنا إليه سابقا: أن الفتوى هي التي تتغير وليس الحكم الشرعي، كما أن الفتوى التي تتغير يكون حكمها الشرعي مرتباً على العوائد والأعراف والتقاليد.. ومن الأمثلة التي يذكرها الفقهاء على ذلك : ما يخرج في صدقة الفطر ، فإن الحديث جاء بإخراج صاع من تمر أو شعير أو زبيب..، فرأى العلماء أن هذه الأقوات كانت هي غالب القوت عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث في ذلك الزمان ، فكأنه قال : أخرجوا صاعاً من غالب قوت البلد التي أنتم فيها ، وعلى ذلك أفتى العلماء بجواز إخراج صاع من الأرز والذرة أو نحوه إذا كان هذا هو غالب قوت البلد في زمنهم ، فبالنظر المجرد إلى الفتوى بجواز إخراج الأرز والذرة يقول القائل : قد حدث تغير في الحكم ، وبالنظر إلى حقيقة الأمر وأن المطلوب هو إخراج الصاع من غالب قوت البلد ، فليس هناك تغير في الحكم الشرعي ، كل ما هنالك أن الذي تغير هو غالب قوت البلد ، والحكم باق على ما هو عليه ، وهذا المثال ونحوه قد ينظر إليه على أنه تغير للفتوى بتغير الزمان ، والحقيقة أن الزمن بمجرده ليس مسوّغاً لتغيير الفتوى لأن هذا هو النسخ الذي لا يملكه أحد إلا الشارع وإنما نسب التغيير لتغير الزمان في كلام بعض أهل العلم ؛ لأن الزمان هو الوعاء الذي تجري فيه الأحداث والأفعال والأحوال ، وهو الذي تتغير فيه العوائد والأعراف ، فنسبة تغير الفتوى لتغير الزمان من هذا الباب ، وإلا لو ظل العرف كما هو عدة قرون لم يكن أحد مستطيعاً أن يغير الفتوى، وفي هذا السياق نجد أغلب العلماء اليوم يجيزون لسكان المدن إخراج زكاة الفطر بالنقود لا نعدام هذه الأصناف المحددة الذي أشار إليها الحديث الشريف..
ومن المعلوم أن الأحكام الشرعية مرتبة على وجود سببها ، فإذا وجد سبب الحكم وتحقق شرطه وانتفى المانع ، انطبق الحكم على الواقع ، فإذا تخلف أحد الشروط أو وجد أحد الموانع انطبق حكم آخر على الواقع ونضرب مثلاً لذلك ، لو أن رجلاً ملك نصاب الزكاة ، ثم استفتى أهل العلم عن وجوب إخراج الزكاة ؛ فإن المفتي يسأله : هل حال على النصاب الحول ؟ فلو قال : نعم . وسأله : هل عليك دين ؟ فقال : لا . هنا يجيبه المفتي بقوله : نعم تجب عليك الزكاة . ويحدد له المقدار الواجب إخراجه حسب نوع المال الذي يملكه ، فلو بعد فترة من الزمان جاءه الرجل نفسه وسأله : هل عليَّ زكاة ؟ فإذا سأله المفتي : هل عليك دين ؟ وقال : نعم ، علي دين يستوعب أكثر مالي حتى لا يبقى منه قدر النصاب . هنا يقول المفتي : ليس عليك زكاة . والرائي غير المتبصر يرى أن الحكم تغير ، والأمر ليس كذلك ، فالحالة الأولى وجد السبب وتحقق الشرط وانتفى المانع ، وأما الحالة الثانية فقد وجد المانع وهو الدين ، فهنا حالتان مختلفتان ، لكل حالة حكم في الشرع ، وليس في هذا اختلاف..ونضرب بعض الأمثل في هذا، وبالمثال يتضح المقال كما يقال: لو أن شخصاً سرق ثم تبين أن شروط إقامة الحد غير مستوفاة ، فلم يحكم عليه القاضي بالقطع ، فإنه لا يقال هنا قد تغير الحكم ولكن شروط إقامة الحد هي التي لم تكتمل ، وهذا هو الذي حدث في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه، عام المجاعة عندما قُحط الناس ، وتعرضوا للهلاك بسبب الجدب ، أصبح كثير ممن يسرق إنما يسرق لاضطراره إلى ذلك ليدفع عن نفسه الهلاك ، وهذه حالة تدرأ عن صاحبها الحد ، ونظراً لأن الأمر كان منتشراً واختلط من يسرق للضرورة ومن يسرق لغير ذلك ولم يمكن تمييزهما من بعض ، فصار ذلك شبهة درأ بها عمر (رضي الله عنه ) الحد في عام المجاعة! ما أفقهه الصحابة رضي الله عنهم بنصوص الشرع، ولما زالت المجاعة زالت الشبهة فكان من يسرق يقام عليه الحد ، فليس في هذا أيضاً تغيير للحكم الشرعي ؛ لأن ما فعله عمر (رضي الله عنه ) في عام المجاعة كان هو الواجب وتماشيا مع روح النص في مثل تلك الحالة.
وختاما، وللمزيد من المعرفة والتعمق في هذه الجوانب والأمورالفقهية وكيفية صناعة الفتوى الدينية نحيلكم على كتاب مهم لشيخنا العلامة عبد الله بن بيه بعنوان: "صناعة الفتوى وفقه الأقليات".