مِن بَين النزَاعَات والخِلافـَات التي تطفـُو عَلى السَّاحَة الدِّينيَّـة والفكريَّـة، قضيَّة الإسلام الأورُوبِّـي التِي دَعا إليهَا مُفكرُون إسلاميُّون يقطنـُونَ بأورُوبًّـا، وأيدتهَا أصوَات وتيَّارَات إسلاميّة تنويريَّـة وأحزَابٌ سياسيّة فرَنسيَّة خاصَّة فِي عَهد الرَّئيس (نيكولا سَاركوزي) الذي دعَا إلى (إسلام فـَرنسِي) يتماشى مع قيم الجمهورية والعلمانية الفرنسيَّـة، فهل حَقا هُناكَ إسلامٌ أورُوبـِّي وإسلامٌ تركِي وأخر سَعُودِي أو مَغربـِي ؟
إنَّ التيَّــار المُعَاصِر من المُفكرين يَعتبرُ بأنَّ هَذِه القضيَّة مَازَالت مَدارَ نقاش وتفـَاعُل وأخذٍ وَرَد، خَاصة بَين السَّلفـِـيِّين والمُجَدديــن، فوجهَة نظـَر السَّلفِيِّــين تقـُومُ على فِكرَة أنَّ الإسلام وَاحِدٌ، لا تغيِّرُهُ ثقـَافة ولا بَيئـَة ولا جُغرَافيَّـة ولا عَولمَة ولا حَضَارَة وأنَّ ثقـَافـَة الإسلام نـَابعَة مِن رُوحِهِ ومِن تـَاريخِهِ ومَدَنيَّـتِه وقومِيَّـته وتعَاليمِه الرُّوحيَّة وقد قـَال بهَذا (شكيب أرسَلان) و (مُحمد الغزالي) و(السيد مُحمد قطب) و(طه حسِين) فِي (مرآة الإسلام) حَيثُ ذهَبَ إلى " أنَّ القرَآن هُو أساس ثقافـَة الإسلام" فضلا عَن (مُصطفى مَحمود) و(حَامِد بَن أحمَد الرِّفـَاعي) و(الشيخ عبد السلام ياسين) الذِي تنـَاوَل هَذِه القضيَّة فِي كثير من كتبهِ منها: (إمَامَة الأمّة) و (حِوَار مع صَدِيقي الأمازيغي) و (جَمَاعة المُسلمين ورابطتهَا) ولعَلَّ أشهَر مَن قالَ بأن الإسلام دِينٌ وثقـَافـَة، هُو الشـَّيخ (يُوسُف القرضَاوي).
بَينمَا يتجهُ التيَّــار المُعَارضُ إلى القـَول بأنَّ الخـَلط بَيْن الدِّين والثقـَافة هُو إشكـَالٌ بحدّ ذاتِه، وأنَّ الإسلام يَنسَجمُ ويتـَأقلـَمُ مَعَ كلِّ بيئةٍ و قـَارَّة و مُجتمَع لأنه دينٌ و رسَالة كونيَّـة شُمُوليَّـة وأنَّ فكرَة دِين العِرق أو فكرَة دِين الشَّعب المُختـَار، هِيَ مُخـَالفة للتعَاليم الإسلامية فضلا عن أنهَا ضِدَّ الخطـَاب القرآنِي، الذِي يُخـَاطب الأمريكِي والاسكندينـَافِي والصِّينِي والسِّريلانكِي والإفريقي..إلخ، ولذلك فهُم فصلوا بين انتماءاتٍ ثلاث:
الانتمَاء الدِّينِـي: وهُوَ يَخصُّ دِيَانة المَرء وقنـَاعَاتِهِ الرُّوحِيَّة والمَذهبيَّـة، وهذا الانتماء يشمل الدِّيَانـَات الكتـَابيَّة (اليَهُوديَّة، المَسيحيَّة، الإسلام) والدِّيَانـَات غَير الكتـَابيَّة ( الزرَادشتيَّـة، المَانويَّة، يزيدية، هِندوسيَّة، السَّامريَّة، البَابيَّـة البَهَائيَّـة..) ويشملُ أيضًا الديانات الأخلاقيَّـة أو الرُّوحيَّة ( الكونفوشيوسيَّة، الطـَّاويَّـة، السِّيخ..)
الانتمَاء الثقـَافِي: أن يَنتمِيَ المَرءُ إلى ثقـَافة مُجتمَع يَسْتمدُّهَا مِن تـَاريخِه وبَيئتِـه وترَاثِه المَادِّي واللامَادِي و عُرفِهِ الشَّعبـِي ونمَطِهِ في العَيش ولكل مجتمع ثقافته بل حتى داخل المجتمع الواحد نجد ضروبا مختلفة ومتباينة من ألوان الثقافات خَاصَّة فِي بُلدَان مثل الصِّين والهـِند وأمريكـَا اللاتينية وإيرَان وتركيَّا...
الانتمَاء العِرقِــي: ويَخصُّ هذا الانتمَاءُ أصلَ المَرءِ، وقرَابتـَهُ الدَّمَويَّة وشَجَرَة نسَبهِ، فكلُّ مَا يدخل في إطار أصل النسب فهُوَ يندرجُ ضِمنَ دَائِرَة الانتمَاء العِرقِي مثلا ( عِرق يَهُودي، ، كنعَانِي، مِصري، أمَازيغِـي، عَربـِي، فـَارسِي، بريطاني..)
فقد ذهَبَ المُفكرُون الإسلاميُّون المجددون خِلافـًا للتيَّـار السَّلفِي المُحَافِظ، إلى أنهُ يُمكن لأيِّ إنسَان أن يكـُونَ صِينيًّا أو رُوسِيًّا أو أمريكيًّـا أو هندِيًّــا مِن حَيْثُ الثقـَافـَة ومُسْلِمًا مِن حَيث الديَانـَة، دُونَ أن تضطرَّهُ الدِّيَانـَة إلى الانعزَال والذوبَان والتقـَوقع فِي ثقـَافـَة مُغايرَة، يُنظـَرُ إليهَا البعض باعتبَارهَا ثقـَافـَة الإسلام، وهَذا مَوقف المفكر الإسلامي وأستاذ الفِكر الإسلامِي المُعَاصِر بجَامعَة أكسفورد (طارق رمضان) الذي سَلط عليه الضَّوء من خلال كتبه خاصة (اعتقادِي الخَاص) و ( الإسلام والمُسلمُون)
الاعتقاد الذي سَاد فِي العصر الرَّاشدي بأنَّ الإسلام ثقافة واحدة، ومَدنية واحدة، قادت الفاتحِين إلى مُحَاولـَة تغيِّير ثقـَافـَة الآخر وتعريب أقوام عِدة، باعتبار أنَّ الدِّين الإسلامي يُرفض كلهُ أو يُقبَلُ كله، و لا سبيلَ لقبول الإسلام دون قبُول ثقافته و لغـتِه التي تعد وعَاءً للثقـَافـَة العربيَّة، وهذا الخطأ التاريخِي والخلط بين الديني والثقافي وبين المُطلق والنسبي كان سببا رئيسيا في النزاع بَين العرب وغيرهم مِن الأقوام في المَاضِي والحَاضِر.
إن القول بأنَّ ثقـَافة الإسلام واحدة هُو قول مُبَالغ فِيه ولا مَكـَان لهُ فِي العَصر الحديث لأنَّ الثقـَافة ليسَت عَقيدَة ولا إيمَانـًا ولا فرَائض، إنمَا هِيَ نمط ٌ مُتكامل من المَعرفة البشرية ونظم فكرية وشعبية وعرفية وسلوكيَّة تختلفُ مِن بَيئةٍ لأخرَى ومن مُجتمَع لآخر، والخلط بين الثقـَافة والدِّين يَزيغُ بنـَا عن التعَاليم القرآنيَّة التي رَسَّخت وأكدَت فِي غيرمَا مَوضع وسُورة مَفهُوم التعدُديَّـة الدينيَّـة والثقـَافية والعِرقية، شَاء الله أن يَجعلنا أممًا مُختلفة المَشارب و الأعرَاق والمَعَارف والثقـَافات، فلا يَجُوز لا باسم العَقل ولا باسم الدِّين القول بأنَّ المُجتمعَات غير العَربيَّة هيَّ أقلُّ إسلامًا من المجتمعات العربية، لأن الإسلام جَاء ليُغيّر وليصلح بَاطِنَ الإنسان وحاشَ لله أن يكون قد أرسل إلينا النبي (محمد) ليُغيّر لغـَات البَشر وثقافتهُم وحَضَارَاتهم.
رشيد العالم.