لم يكن خطابا عاديا ذلك الثلاثاء. كان خطاب عودة إلى البيت. كان خطاب احتماء دافئ وجميل “بعد تفكير عميق”، في الحضن الأول للأشياء..
لذلك لم تكن قاعة نلسون مانديلا في قلب أديس أبيبا قادرة إلا على احتضان كل تلك العاطفة بعاطفة تشبهها، ولم يكن أمام قادة إفريقيا ورؤسائها إلا إسلام القياد كل مرة لليد لكي تصفق لهذا الملك العظيم القادم من هذا البلد العظيم.
أحيانا وعندما ترغب أن تكتب عن وطنية الأشياء في البلاد، تخشى الوقوع في النقيض منها: أن تبدو مجرد متباه بالكلمات يخط إنشاءا عابرا ويمضي. لذلك تخفي في طيات قلبك عديد الأشياء، وتعتبر أن الشعب، إذ يلتقطها ويفهمها ويستوعب مغازيها، هو أفضل بكثير من النخبة التي تبحث في ثنايا التفاصيل، عن التهم وعن أوامر الكتابة وعن تفسير كل شيء بالمقابل .
المغربي العادي والمغربية العادية، أولئك الذين يهمهم وطنهم وكفى لا يبحثون عن تفسير ماكر دوما لكل شيء. يبحثون فقط عن الصدق، يتلمسونه في العبارة، في طريقة نطقها، في كيفية تحرك الجسد والروح معه، في أي التفاتة صغيرة أو كبيرة تند عن قائل الكلام..
لذلك كانوا دوما وأبدا مصدقين لكلام الملك.
لذلك كانوا يعرفون أن وراء هذا التحرك يمنة ويسرة، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، في القارة على امتداد ستة عشر عاما ويزيد رؤية استراتيجية تنوي العودة بشكل آخر – ذكي – إلى حضن الأم الإفريقية تلك التي لا انفصال لنا عنها مهما كان، لأن أحكام التاريخ والجغرافيا والحضارة والانتساب تفرض ذلك ، ولا تفرض أي شيء آخر غير ذلك..
ويوم الثلاثاء لم نكن ننصت لخطاب سياسي واقتصادي عميق فقط. يوم الثلاثاء أصخنا السمع – وإفريقيا كلها آذان صاغية – لخطاب إنساني عاطفي جد صادق من بلد إلى قارة أحبها ويحبها وسيظل يحبها.
لكنه غاب عنها بعض الوقت، ومثال الفرنسيين معبر في هذا الصدد “من يحب كثيرا يعاتب كثيرا”، وقد عاتب المغرب القارة أنها في لحظة من لحظات تيهها التي مرت منها قررت أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير . اختار المغرب الانسحاب لكي يقول للقارة أهميته بالنسبة إليها وأهميتها بالنسبة إليه، وعندما اقتنع الجانبان بعد أن مرت تحت جسور السياسة كل المتغيرات، وأضحت الحرب الباردة مجرد ذكرى قديمة لازال يتمسك بها حكام الجزائر بعد جلطتهم الدماغية وقليل من الموتورين، أعلن المغرب أن الوقت قد حان، وأن الزمن قد أزف، وأن أصل الأشياء أن يعود الإبن إلى بيته، إلى قارته، وأن يعود البلد المؤسس إلى حضن الاتحاد، وأن يقول داخله تصوره للأشياء، وأن يضع كل خبراته دون مباهاة أو تفاخر في خدمة تنمية القارة ومنحها الريادة التي تستحقها بين بقية القارات.
ولو بقينا أسرى تصور الجزائر ومن معها للأشياء، لوضعنا كل عقلنا ومقدرات الطبيعة لدينا في الحدود، ولتسلحنا لحرب أخرى غبية من تلك التي ذاقت ويلاتها شعوب عربية وغربية كثر. لكننا مرة أخرى كنا مغاربة أي كنا الأكثر ذكاء، وفضلنا ترك الجمل بما حمل في مجال الغباء هذا للجزائر ولمن تصنعهم، وقررنا الالتفات إلى الأهم: إلى الإنسان في القارة وإلى تنميتها
قدر هاته القارة الحزينة لم يكن أبدا أن يموت أبناؤها فقرا وجوعا وحرمانا وحروبا وويلات وعديد الكوارث.
قدرها لو أتيحت لها في لحظات الزمن الأولى قيادات من هذا الجيل الجديد المتحرر من العقد، هو أن تكون الأفضل بين الجميع، لكن ماكان كان و”ماما أفريكا” عانت وصبرت طويلا لأن الصبر صنع فيها ولأنها أصله الأول، ولأنها الأقدر عليه من بين الجميع.
واليوم أتى زمن جديد: كل مقدرات المكان يجب أن تكون لصالح أبناء المكان. كل ثروات القارة يجب أن يستفيد منها أبناء القارة. كل الذكاء الأسمر القابع في تلافيف أعين هؤلاء الدافئين الذين يحملون مسمى الأفارقة، يجب أن يكون مشتغلا لصالح الأفارقة.
تصور استراتيجي حكيم مثل هذا كان من الضروري أن يأتي من أعلى شمال القارة، مرة أخرى دون مباهاة أو تفاخر. كان لزاما أن يحمله محمد السادس، ومعه جيل جديد من القادة الأفارقة، يفهمون أن الوقت الذي يملكونه يجب أن يذهب لصالح قارتهم وشعوبهم، ويستوعبون أن أخطاء الماضي ليس لها إلا أن تذهب لحال سبيلها وبشكل نهائي لا يقبل أي تأجيل..
لذلك رنت في القاعة جملة “اشتقت إليكم كثيرا” رنينا خاصا تلقيناه نحن هنا في الرباط مثلما تلقاه الأهل في دار السلام، وفي دكار الأصل، وفي كيغالي وفي أبيدجان، وفي أنتاناناريفو وفي جوبا وفي القاهرة وفي تونس وفي كل مكان من أصل الدنيا ومحتد البشرية : إفريقيا الكبرى بأبنائها الكبار.
شكرا للمغرب على هاته اللحظة التاريخية التي منحها لنا، شكرا جلالة الملك، سنقول للأحفاد فيما بعد ولكل الوافدين : كنا هناك يومها…رأينا محمد السادس يقول لإفريقيا كل حب المغرب الذكي لها، وكل رهانه عليها ورهانها عليه لأجل المستقبل. فعلا لقد كنا هناك…
بقلم: المختار لغزيوي.